هل من توبة قبل فوات الأوان؟

هل من توبة قبل فوات الأوان؟
بعض أبنائنا وبناتنا المسلمين واقع في المعصية، بعضهم واقع في معصية الزنا، وآخرون في عمل قوم لوط، وطائفة يعاقرون الخمر ويشربون المخدرات، وطائفة يسرقون ويغشون، وبنات يخالطن الشباب، وربما جمع بعضهم حزمة من هذه الكبائر المهلكة، ولكن الإيجابي فيهم هو ألم قلوبهم من وقوعهم في هذه المعاصي، وحرقة أكبادهم من مقارفتهم للمآثم، ولوعة نفوسهم وتوقانها للتوبة والفضيلة والطهر، وأعظم من ذلك أنهم يسألون ويتلهفون؟ هل لهم من توبة؟ وماذا عما ارتكبوه من المعاصي والذنوب؟ وكيف السبيل إلى التوبة والطهر؟

وأقول لأبنائي وبناتي:
أولا: سؤالكم عن التوبة وعن السبيل إليها يدل على خير كبير في نفوسكم، وعلى معرفة وخبرة بقذارة المعصية وشقاها، وأن اللذة المحرمة العابرة تخلّف ألما عظيما وحسرة في قلب فاعلها.

ثانيا: باب التوبة مفتوح لكل من طلبه حتى لو كان مشركا كافرا، أو منافقا فاجرا، فكيف بمن هو مسلم موحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؟ قال الله عز وجل: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [سورة الزمر: 53]. فهذه الآية نزلت في قوم أسرفوا على أنفسهم بالكفر والمعاصي، ويئسوا من أن يغفر الله لهم، ففتح الله عز وجل وهو الرحمن الرحيم باب التوبة على مصراعية، ووعدهم إن هم تابوا بغفر ذنوبهم جميعا كبيرها وصغيرها، فهو سبحانه وتعالى الغفور الرحيم، فهل بعد هذا العرض عرض، وهل تجد من يحبك ويطلب ودك مثل ربك جل في علاه.
وأعظم من ذلك أن الله عز وجل وعد التائبين الصادقين في توبتهم، المستغفرين من حوبتهم، الذين عملوا صالحا بعد عودتهم بأن يبدل سيئاتهم التي ارتكبوها ومعاصيهم التي اقترفوها حسنات! قال سبحانه وتعالى: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [سورة الفرقان: 70]. فيا لهذا الرب العظيم الكريم، الودود الرحيم.

ثالثا : والحل بعد الله عز وجل لا يكون إلا من عند العبد أو الأمة، فالتغيير لا يكون إلا من قرارة النفس، وباطن الفؤاد، ولا يستطيع الخلق كلهم إصلاح من تأبى نفسه الصلاح، قال الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ)* [سورة الرعد: 11]. فالتغيير يأتي من الداخل، ويحتاج إلى عدة أمور:
أولها: صدق التوبة فمن صدق الله صدقه الله.
ثانيها: دعاء الله عز وجل والتضرع إليه ليصلح الحال ويعين على الطاعة وترك المعصية.
وثالثها: لزوم الاستغفار والتوبة، والدعاء بدعاء يونس *( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) .
ورابعها: الإرادة التامة والعزم الأكيد لإصلاح النفس؛ فإن إصلاح النفوس منوط بالإرادة والمشيئة، قال الله عز وجل: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [سورة التكوير: 28 – 29]. فمن شاء الاستقامة شاءها الله له، ومن طلب الهداية وتسبب لها هداه الله، قال الله عز وجل: *(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) [سورة محمد: 17].
وخامسها: الصحبة الصالحة، فمن أراد التوبة بصدق فعليه أن يترك أصحاب السوء ويهجر بيئة الفساد، وإلا فلن يدع المعصية إلا ما شاء الله.
وأختم بالتذكير بسرد حديث قاتل المائة ففيه عبرة لمن يعتبر:
فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ” كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ،  فَقَالَ : إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ ؟ فَقَالَ : لَا. فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ،  فَقَالَ : إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ، انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ، فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ ؛ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ. فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ : جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ. وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ : إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ. فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ : قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ. فَقَاسُوهُ، فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ ” . قَالَ قَتَادَةُ : فَقَالَ الْحَسَنُ : ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ الْمَوْتُ نَأَى بِصَدْرِهِ . رواه البخاري ومسلم.
فهذا رجل أسرف في المعصية، وطلب التوبة صادقا ففتح له باب التوبة، فتاب وغفر له وأدخل الجنة دار السلام جعلني وإياكم من أهلها.
فهل من توبة قبل فوات الأوان؟ وهل من توبة قبل حضور الملائكة لقبض الروح وعرضها على النيران؟
فوالله ما اللذة إلا في التوبة وقراءة القرآن! وما السعادة إلا في الاستغفار والذكر وطاعة الرحمن!
أبو مجاهد صالح بن محمد باكرمان.

زر الذهاب إلى الأعلى