ولد الهدى

ولد الهدى

لقد كان العالَم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم يموج بشتى أنواع الشرك والخرافة، فكانت الوثنية تتفنن في صناعة الأصنام والأوثان، وفي تشريع الطقوس المختلفة لها، وفي الدفع بالناس نحو التصديق بها والتقرب إليها حتى صارت جزءا لا يتجزأ من عقلية ذلك العصر وعاداته وتقاليده، فضلت العقول، وانتكست الفطرة، وغرق الناس في حمأة وبيئة من العبودية للخلق من حجر وشجر وإنس وجن وملائكة وغير ذلك.
وكان المجوس يقدسون النار، ويعبدون غير الله عز وجل . أما الصابئة فكانت معبوداتهم هي الشمس والقمر والزهرة ونحوها من النجوم والكواكب.
وأما أهل الكتاب (اليهود والنصارى) فقد صاروا جزءاً من الانحراف العام وسببا من أسبابه فقد انحرفت عقائدهم، وتحرفت مصادرهم، وصاروا يضاهئون الذين كفروا من قبل فيتخذون الأنبياء والصالحين شركاء مع الله قال الله تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) [التوبة :30].
ولم يسلم في ذلك المشهد المظلم وفي تلك الجاهلية العمياء إلا بقايا من أهل الكتاب، أفراد ممن بقي على التوحيد هنا وهناك، ويصور النبي صلى الله عليه وسلم مشهد الجاهلية بقوله: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب).
وولد الهدى محمد صلى الله عليه وسلم لتولد معه بذرة تجديد التوحيد وإعادة إحيائه، وأرسل محمد صلى الله عليه وسلم بالحق بشيراً ونذيراً قال الله عز وجل: ((يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا))[الأحزاب: 45-47].
فجاء السراج المنير صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور. من ظلمات الشرك والخرافة والجهل إلى نور التوحيد والحقيقة والعلم.
وفجَأهُ الحق وهو في غار حراء , وكان أول ما أنزل الله عليه ((اقرأ باسم ربك الذي خلق)) [العلق:1]. فكان ذلك مؤذنا بميلاد أمة العلم والمدنية والاستنارة ، واضمحلال أمة الجهل والهمجية والضلالة ، ومؤذنا بالعبودية للذي خلق وحده , فباسمه وحده نقرأ , وباسمه وحده ننطلق في هذه الأرض لنعمرها بطاعته.
ثم نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم الآيات التي كان بها رسولا مبعوثاً إلى هذه الأمة: ((يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر)) [المدثر: 1-7].
إنه النداء الحاني لهذا النبي المتدثر بثيابه ليقوم ويترك الفراش والدعة, ولينهض للمهمة العظيمة التي أنيطت به وهي الرسالة والنذارة ، ليذر قومه من الوقوع في الشرك وليكبر ويعظم الرب وحده, فالخالق وحده هو الجدير بالتكبير والتعظيم والعبادة, وهو وحده الجدير بأن تطهر له الثياب وتخلص له القلوب وتقوم على أساس شريعته الأخلاق، ومن أجله وحده يهجر الرجز والأصنام والأوثان، أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن ينهض ليقوم بمهمته في الدعوة إلى توحيد ربه وتكبيره وتعظيمه، وأن لا يمنن على ربه مستكثراً ما يقوم به من جهد تجاه هذه الدعوة، وأن يصبر على كل ما يلاقيه في سبيلها , فهذه الدعوة هي دعوة تحرير الإنسان من العبودية للخلق، وإعلائه بعبوديته لله وحده.
وبعد ذلك نهض النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم بواجب البلاغ المبين، يؤيده الوحي من السماء، ويكلأه ربه جل وعلا، فأعلن دعوته للملأ، مبطلا لدعوة التنديد، ومؤيداً لدعوة التوحيد. فصرخ في القوم (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) وقرأ عليهم: ((ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون)) [يوسف :40]. أجل والله إن الدين القيم هو دين التوحيد ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد وأنكر الشرك والتنديد فوقفت له الجاهلية بكل قوتها, ورمي الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم حامل الهدى وصاحب الحق بالجنون والسحر والكهانة والبدعة والاختلاق، وهكذا يفعل المبطلون مع دعوة الحق؛ لأن دعوة الحق تعبد الناس لله وحده وهم يريدون من الناس أن يظلوا عبيداً لهم وخداما. لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليكترث بهذه الحملات الدعائية ضده, فمضى في طريق دعوته ومالت إليه النفوس المحبة للحق التي لم يغش عليها ران الهوى فأعلنت إيمانها بالله وحده.
ثم حاولت الجاهلية مساومة محمد صلى الله عليه وسلم فلقنه ربه ما يقول لهم: ((قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين))[ الكافرون: 1-6].
وظل النبي صلى الله عليه وسلم حياته كلها يجاهد في سبيل نشر التوحيد بالدعوة تارة وبالحوار تارة وبالقتال تارة أخرى, ظل يدعو إلى التوحيد ويجاهد في سبيله في مكة ضد الوثنية, وفي المدينة ضد انحرافات أهل الكتاب من اليهود والنصارى, حتى دوت كلمة التوحيد في الأرجاء, ورسخت في جزيرة العرب, وجاء نصر الله والفتح, فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح يكسر أوثان الجاهلية بمحجنه وهو يقرأ ((قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا)) [ الإسراء :81 ]. ((قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد)) [سبأ: 49].
وكانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد صافية نقية دعوة إلى توحيد الله عز وجل وتعظيمه دون سواه، حتى الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم ما هو أمام الواحد الأحد إلا عبد من العبيد غير أنه صفوتهم وخلاصتهم.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على تعليم أمته أنه مجرد بشر من البشر اصطفاه ربه لتبليغ هذه الرسالة, ولكنه لا يتصف بشيء من صفات الخالق وخصائصه جل في علاه، لقد لقنه ربه جل جلاله أن يقول للناس إنما هو5 بشر وأنه لا يملك ضراً ولا نفعاً وأنه لا يعلم الغيب قال الله عز وجل: ((قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا))[ الكهف: 110], وقال الله عز وجل: ((قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء وما أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون)) [الأعراف :88], وقال الله عز وجل: ((قل لا أملك لكم ضراً ولا رشداً)) [الجن :21].
فلما أقام النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد, وأزال الله به الشرك, وهدم الأوثان, وفتح الله على يديه مكة لتصبح أرض التوحيد إلى الأبد, وانتهى دوره بعد اكتمال رسالته, آذنه ربه بالرحيل في قوله تعالى: ((إذا جاء نصر الله والفتح , ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا , فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا)) [الفتح:1- 4].
ومع هذا كله فقد حمى النبي صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد, وحذر من الغلو لا سيما في الصالحين, فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد, وما ذلك إلا بالصلاة عليها أو عندها أو إليها, فعن عائشة رضي الله عنها قالت : لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه, فإذا اغتم بها كشفها فقال وهو كذلك :(لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً) رواه البخاري ومسلم. فالنهي عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد إنما هو لأن ذلك ذريعة للشرك وليس العلة في ذلك ما يمكن أن يكون من نجاسة في المقبرة فإن أجساد الأنبياء لا تبلى ولا تتنجس فدل دلالة بينة على أن ذلك فقط لحفظ حمى التوحيد.
لقد بذل النبي صلى الله عليه وسلم جهداً عظيماً لتثبيت التوحيد ونشره في أتباعه ولكن الشيطان لا يزال مجتهداً فيهم ليحرفهم عن تعاليم نبيهم وتوحيدهم لربهم ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الشيطان سيصل في يوم من الأيام إلى مراده تاماً فقال صلى الله عليه وسلم محذراً: (لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى) وستكون حجج هؤلاء المسلمين هي عين حجج الكفار المشركين ((لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا)) ((ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفا)).
فليتأمل المسلم نعمة الله عز وجل عليه بالتوحيد, وليتأمل الجهد العظيم الذي بذله النبي صلى الله عليه وسلم لتثبيت قضية التوحيد واقتلاع جذور الشرك والخرافة, وليتأمل وضوح هذه المسألة في القرآن، ثم بعد ذلك كله يكون في المسلمين من يغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم ويغلو في الصالحين، ويكون في المسلمين من يتوجه بالطلب والقصد إلى غير الله عز وجل, ويكون في المسلمين من يعظم الخلق ويجعل لذلك المواسم المعينة, فالله وحده المستعان.

أبو مجاهد صالح بن محمد بن عبد الرحمن باكرمان

زر الذهاب إلى الأعلى