منزلة التعليم وظاهرة الغش

منزلة التعليم وظاهرة الغش

إن للتعليم مكانة عظيمة في الإسلام، وهذا شيء لا يخفى، فأول آيات نزلت من القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم كافية في الدلالة على ذلك، قال الله عز وجل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5].

فأول كلمة نزلت من القرآن هي الأمر بالقراءة “اقرأ” كيف والقراءة هي مفتاح العلم والتعليم، ولذلك نقول بكل فخر: نحن أمة “اقرأ”، لكن المشكلة كما يقول بعض الدعاة المعاصرين: إن أمة “اقرأ” لا تقرأ.

ثم يشيد الله عز وجل بالقلم فيقول: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق:4].

وفي سورة القلم، أقسم الله بالقلم والكتابة فقال عز وجل: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:1-2]، والقسم بالشيء تعظيم له ورفع لشأنه.

ومن بديع هذه الآيات أن الله عز وجل أقسم فيها بالقلم والكتابة على براءة النبي صلى الله عليه وسلم من الجنون والخرافة والأساطير، وكأن الآيات تقول: إن السبيل إلى معرفة عظمة الإسلام وعظمة رسول الإسلام هي العلم وطرقه، فدين الإسلام هو دين العلم والتعليم والحضارة والمدنية.

وليس هذا وحسب، بل إن الآيات الكريمات في سورة الجمعة وغيرها تجعل التعليم من وظائف الرسول ومهامه التي بعث من أجلها، قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة:2]، إن الله عز وجل بعث محمداً في الأمة الأمية لتكون هذه الأمة الأمية هي حاملة رسالة هذا الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوص، ولا يتأتى ذلك إلا بإخراج الأميين أولاً مما كانوا فيه من الضلال المبين، ولابد لتلك المهمة من وظيفة التعليم فبعث محمداً صلى الله عليه وسلم معلماً، وحسب المعلمين شرفاً أن محمداً صلى الله عليه وسلم بعث معلماً.

ويصرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في سنته، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لم يبعثني معنّتاً ولا متعّنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً» [رواه مسلم].

وكان صلى الله عليه وسلم معلماً بحق في هدايته للحق وفي طريق تعليمه، فهذا معاوية بن الحكم السلمي الذي تكلم في الصلاة جاهلاً يدعوه النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة فيرهبه، وقد خوفه الناس بزجرهم له عن الكلام في الصلاة لكنه لما جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجد الأمان وحسن التعليم فقال: «فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه» [رواه مسلم].

فهذه هي مكانة التعليم الذي هو وسيلة العلم وأما مكانة العلم في الإسلام فأعظم من أن تحصيها هذه الورقات بمجرد الإشارة وحسبنا قول الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [الزمر:9].

إنه أمر من الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يلقي على الناس هذا السؤال الذي مفاده النفي، نفي المساواة بين من يعلم ومن لا يعلم، ثم بعد بيان منزلة العلم على عدم العلم يقول: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} [الرعد:19]، فالذي يتذكر وينتفع بنفي المساواة بين العلم والجهل إنما هو صاحب اللب وذو العقل وحده، وكيف ذلك؟ بأن يدعوه عقله ويحثه لبّه على طلب العلم وسلوك سبيله ليرفع عن نفسه وصمة الجهل.

والسبيل إلى العلم سبيل واحد وهو التعليم وبذل الجهد، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما العلم بالتعلم»، وإنما مراده حصر، فلا سبيل إلى العلم والحضارة والمدنية إذاً إلا بالتعلم وبذل الجهد والوقت والمال، قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].

وإذا كان التعليم والمجاهدة هو السبيل الوحيد للعلم فإن ظاهرة الغش هي السبيل الأعظم لقتل العلم والتعليم، إنها لمأساة حقيقية أن تتفشى ظاهرة الغش في الامتحانات في بلاد المسلمين، وفي أمة القرآن وأمة “اقرأ” مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم حسم المسألة بقوله: «من غشَّ فليس منَّا» [رواه مسلم].

أجل فمن غش وخدع فليس من المسلمين، لأن الغش ليس من شأن الإسلام والمسلمين، وليت أن المسئولين والإداريين والمربين والمعلمين والموجهين يلتفون لمحاربة هذه الظاهرة الخبيثة التي تقتل التعليم وتقتل الموهبة وتقتل نهضة الأمة، ولا يكونوا من الضاربين بهذا المعول، معول الهدم في جنب الأمة.

أسأل الله أن يسمع كلماتي المخلصين، وأن يحرك فيهم كوامن الخير لأمة الإسلام، وأن يدرسوا هذه الظاهرة، بجد ليعرفوا أسبابها، ويخرجوا بحلول عملية لاجتثاثها.

وإن من أسباب هذه الظاهرة “ظاهرة الغش في الامتحانات” من وجهة نظري ما يلي:

1- التعامل مع هذه الظاهرة بتهاون وتساهل من قبل المسئولين والإداريين والتربويين ومن قبل الآباء والمجتمع.

2- عدم استشعار خطورة هذه الظاهرة على العلم والتعليم والنهضة.

3- السياسات التعليمية غير السديدة التي تسبب في تكثيف المواد الدراسية والإلزام بدراسة مواد غير أساسية حتى في التعليم الأساسي، وتصعيب أسئلة الامتحانات التي هي وسيلة وليست غاية.

4- الإهمال عند الطلاب وعدم الرغبة في المذاكرة وإتعاب النفس مع الضعف البشري وكراهية الظهور بمظهر النقص أمام الآخرين.

5- التنافس غير الشريف بين إدارات المناطق والمدارس، ومحبة الانتصار وعدم الفشل على حساب التعليم، مما سبب في تساهل الإدارات التعليمية تجاه ظاهرة الغش.

6- تسلط المتسلطين الذين يرغبون في فوز أبنائهم وأتباعهم وإن لم يكونوا أهلاً لذلك.

7- ضعف الوازع الديني، وعدم معرفة شناعة الغش في الإسلام.

8- التبعية في سياسات التعليم للغرب ومتابعة نصائحه التي لا ثمرة لها إلا بقاء الأمة في غياهب التخلف والجهل.

9- عدم تشجيع الرافضين للغش، وردع الواقعين فيه، بل الأعظم من ذلك أن المحارب لظاهرة الغش صار اليوم موضع ازدراء ونظر بريبة عند الكثير من الناس.

هذه هي أهم أسباب هذه الظاهرة الخطيرة، وأما الحلول، فنحن في أمس الحاجة إلى الحلول العلمية التي تتجاوز المشكلات التي ولدتها تلك الأسباب، وأما التنظير وحده فلا يكفي للتخلص من ظاهرة قد تأصلت في المجتمع حتى صارت مرضاً مزمناً.

أسأل الله أن وفق كل الإداريين والتربويين والدعاة والمصلحين لتخليص المجتمع من هذه الظاهرة الخطيرة، وأن يحيوا في أبنائنا روح الجد والاجتهاد والتفوق.

زر الذهاب إلى الأعلى