حضرموت أولا
حضرموت أولا
لا أظن أنني بحاجة إلى أن أشرح أن المقصود، ليس هو الحديث عن أولية المبادئ, فالمبادئ أولاً, وفي المبادئ (التوحيد أولاً) وليس المقصود الأولية في فضل البلدان, ففي البلدان مكة والمدينة أولاً, وإنما المقصود الأولية في المعروف والدفاع عن الحقوق, فأنا كحضرمي أقول: حضرموت أولاً.
قال الله عز وجل يقول: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75], فالأقربون أولى بالمعروف, وأولى بالدفاع والمطالبة بالحقوق، وذلك من أعظم المعروف.
ولما بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أنزل عليه في بدء الأمر قوله: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] فكانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أولا لأهل مكة؛ لأنهم كانوا أولى الناس بالمعروف وبالخير الذي جاء به؛ فمن حق كل إنسان أن يهتم بأقربائه وأهل بلدته أولاً, ويحرص على أن يحصلوا على حقوقهم المعنوية والمادية.
وكما أن الشريعة دعت إلى جعل الأولوية في المعروف والحقوق لأولي الأرحام؛ فقد دعت كذلك إلى حفظ حقوق الجار, قال الله عز وجل: {وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} [النساء: 36], هذه الآية يسميها العلماء: آية الحقوق العشرة, بدأها الرب جل جلاله بأمر العباد بحقه وهو عبادته وحده والنهي عن الإشراك به, ثم أمر عز وجل بالإحسان بالوالدين وبالضعفاء كاليتامى والمساكين وبذي القربى والجيران والأصدقاء وابن السبيل، وهو الغريب الذي ينزل بالبلد فله حق الضيافة والجوار؛ فهؤلاء كلهم من مكونات البلد، وقد أمر الله عز وجل بالإحسان إليهم, والإحسان في الآية مطلق ليشمل كل ما هو بر وفضل وإحسان، وبهذا نعلم أن مطالبة أهل بلد بحقوقهم لا ينبغي أن تفسر دائما بأنها نزعة عصبية, وأن الوطنية بهذا المعنى لا ينبغي أن تصنف بأنها دعوى جاهلية فالإنسان أولى بأهله وجيرانه, وهو مجبول بحب مسقط رأسه وموئل خلانه؛ فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:” لما قدم رسول الله المدينة وعك أبو بكر وبلال, وكان أبو بكر إذا كأخذته الحمى يقول:
كلُّ امرئٍ مصبحٍ في أهله *** والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلع عنه يرفع صوته ويقول:
ألا ليتَ شعري هل أبيتنَّ ليلةً *** بوادٍ وحولي إذخرٌ وجليلُ
وهل أردنْ يوماً مياه مجنةٍ *** وهل يبدونْ لي شامةٌ وطفيلُ
وشامة وطفيل جبلان بقرب مكة, فقد هيج الشوق بلالا فذكر نبات الإذخر والجليل, ومياه مجنة وجبلي شامة وطفيل اللذين يدل بدوّهما على قرب مكة, إنه الشوق للوطن ومرابع الصبا, ولم يكن قط بالمذموم.
فلا غبار على الحضرمي إذا قال: حضرموت أولاً في الدفاع عن الأقربين والجيران والوافدين المسالمين، وفي المطالبة بحقوقهم.
وإن من حقوق كل بلدة ومن حقوق أهلها أحقيتهم بالتمتع بخيراتها, فلا يجوز عند فقهاء الشريعة السمحة نقل الزكاة من بلد إلى آخر إلا بعد حصول الاكتفاء عند أهل ذلك البلد، وقد أخذ الفقهاء هذه القاعدة من قول الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه لما أرسله إلى اليمن: «فإن هم أطاعوا لذلك؛ فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» [رواه البخاري ومسلم].
فقوله صلى الله عليه وسلم: «فترد على فقرائهم»، صريح أن أهل كل بلد أولى بموارده ممن سواهم، فإذا ما اكتفى أهل بلد فإنهم سيردون على من قرب ومن اشتدت حاجته من إخوانهم المسلمين, وهذه قاعدة أخرى أخذت من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من كان عنده فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له»، قال أبو سعيد الخدري راوي الحديث: «فذكر من أَصْنَافِ الْمَالِ ما ذَكَرَ حتى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا في فَضْلٍ» [رواه مسلم].
فالذي ينقل إذاً إنما هو الفضل والزيادة, وأما أن ينقل المال وفي البلد من هو محتاج فلا يجوز شرعا ولا عقلا.
وأكمل الوجوه في الإسلام: أن يتقاسم المسلمون الأموال بينهم بالسوية, فيُشرِكون إخوانهم فيما يملكون, حتى لا يدعوا بينهم صاحب فاقة, وهذه قاعدة ثالثة مأخوذة من قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إذا أَرْمَلُوا في الْغَزْوِ أو قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا ما كان عِنْدَهُمْ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ في إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ؛ فَهُمْ مِنِّي وأنا منهم» [رواه البخاري ومسلم].
ولكن ليس في الإسلام قط أنه يحل لوالٍ أو حزب أو فرد أن يأخذ من أهل بلد أكثر مما يدع لهم, فكيف إذا كان الحال هو أخذ كل شيء ليعيش أهل الحق على الفتات, هذا من الظلم البين, والجور الواضح, وهذا ما حدث لحضرموت وأهلها فيما مضى, وآن الأوان أن تسترد حضرموت حقوقها؛ فليكن شعارنا إذاً (حضرموت أولاً).