تنازلوا لخطة تعظم فيها الحرمات

لقد ألهمني ربي عز وجل -وله الحمد- أن أتذكر معنى جميلاً، وهو أنه من المستحيل أن يردَّ الله عز وجل الناس إلى العلماء، ثم لا يكون عند العلماء حل ولا مخرج لما هم فيه, ولقد أعلنت هذا المعنى وكررته وسأظل أكرره. قال الله عز وجل: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:83].

فمن فضل الله عز وجل ورحمته أن هيأ لنا العلماء الذين عندهم المخرج, ولولا ذلك الفضل والرحمة لاتبع الناس طريق الشيطان.

ولكن هذا المعنى لا يقبله كل الناس فالناس مشارب شتى، وكل إناء بما فيه ينضح، وستبدي لك الأيام المقبلة ما كان خافيا. غير أن الوقيعة في العلماء والنيل منهم، وتسفيه آرائهم، وتخطئة حلولهم لم تعد حكراً على فئة؛ بل صار عرضهم كالكلأ المباح ينال منه كل من شاء، ويطأه بأظلافه كل أحد، ولما صارت الطريق سالكة سلكها بعض منسوبي هؤلاء العلماء، فوضعوا العلماء بين المطرقة والسندان، وكم آلمني ذلك ووخز في نفسي، ولا نقول إلا: حسبنا الله ونعم الوكيل.

هاهي الأيام تكشف لنا من هو الذي وقع حقيقة بين المطرقة والسندان أهم العلماء أم الشباب؟

لقد نظر العلماء إلى الثورة في اليمن بنظر غير النظر الذي نظروا به إلى ثورات تونس ومصر ليبيا، فالمعطيات هنا غير المعطيات هناك، ولهذا فإن الحكم سيكون غير الحكم، فإن اليمن وإن شابهت تلك البلدان في بعض الأمور فإنها تخالفها في أمور أخرى.

فمن نقاط الاتفاق: الاستبداد والظلم والحكم العسكري وتسلط الأمن والاستئثار بالمال واللعب بمقدرات الأمة.

ومن نقاط الافتراق: الدستور الإسلامي والقوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية، وحرية التعبير، ووجود معارضة قوية لها تأثيرها في الشارع، ووجود حركة تمرد في الشمال وحراك في الجنوب. هذه المعطيات وغيرها أدت إلى:

– تخوف الكثير من العلماء من الأثر السلبي لهذه الثورة على المكتسبات النظرية الأصلية كالدستور والقوانين التي تصبغ الدولة بصبغة الإسلام ولو بمجرد الالتزام الأصلي الذي يكون النواة والمنطلق للتطبيق.

– تخوف الكثير من العلماء على الوحدة التي هي في الأساس مطلب شرعي، وتفتيتها مطلب غربي على المدى البعيد، وإن كان الغرب قد يختار الوحدة على المدى القصير.

– تخوف العلماء من مشروع دولة علمانية في الجنوب وأخرى شيعية في الشمال، فامتعضت قلوبهم واقشعرت أبدانهم أن يسجلوا عند الله ثم في سفر التاريخ أن أحدهم أعان على ذلك ولو ببنت شفة، وإن كانوا سيتعاملون مع أي واقع يكون، لكنهم يخشون أن يسجل الله عليهم ثم يسجل عليهم التاريخ أنهم تسببوا في إيجاد واقع لا يرضاه الله عز وجل.

– أن جزءاً من القوات المسلحة في اليمن تحت إدارة أبناء الرئيس مما يقوي شوكة الرئيس واستعصائه على قبول التنحي الفوري.

– عدم وحدة الشعار الذي يرفعه المتظاهرون بين إسقاط النظام وتقرير المصير، لاسيما في ساحل حضرموت.. وأشياء أخرى.

والتخوفات التي عند هؤلاء العلماء ليست مجرد تهيؤات؛ بل تخوفات لها رصيد واقعي من أجندات مرقومة، وخطط مرسومة، وسيناريوهات محكومة، ودعوات محمومة، وخطوات معلومة.

ولكي يراعي العلماء كل تلك المعطيات مع التعاطي والواقع الموجود حقيقة وهو الثورة الشعبية، أراد العلماء أن يكون ثمة تسليم سلس للسلطة إلى حكومة وحدة وطنية مع وجود فسحة زمنية ولو قصيرة، حتى لا يحصل التعنت ولا تنشب القضية في فم الزجاجة. غير أن الذي حدث هو التعنت من الجميع وعدم التنازل، حتى وصل الأمر إلى سفك الدماء البريئة, والتوعد بالزحف حتى الوصول إلى غرفة النوم! -هكذا مطلقة بلا اعتبار لحريم- ولا شك أن لهذا التعنت ضريبة يدفع ثمنها الشعب من دماء طاهرة زكية، وأموال باهظة، وأوقات ثمينة. فكم دماء سفكت؟ وكم مليارات صرفت في الطرفين؟ وكم أوقات قضيت؟ ولا يزال المسلسل مستمرا، وأسأل الله أن لا تمر شهران رغما عنا بدلا من مرورها برضا منا. هذا على أحسن الأحوال.

وأما إذا ما تفجر الوضع -لا سمح الله بشيء من ذلك- فكل من تعنت سيصيبه نصيب من الإثم على كل قطرة دم تهراق وكل بناء يهدم وكل مال يضيع.

فيا أهل اليمن! يا أهل الإيمان والحكمة! انظروا إلى حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديبية، كيف قبل الشروط المجحفة من أجل الغاية النبيلة؟ قبل الشروط المجحفة التي أملتها عليه قريش التي آذته وأصحابه ثم أخرجتهم من مكة وصادرت ديارهم وأموالهم، ثم هاهي اليوم في موقف الضعيف قد أنهكتها الحروب، وأضعفتها السنون، ويأتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عقر دارها بألف وأربعمائة رجل من أصحابه كلهم يريد الجنة، وكلهم مبشر بالجنة، ويبايعون تحت الشجرة على الموت وعلى أن لا يفروا، ثم مع ذلك كله يقول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في موقف القوة بأبي هو وأمي: «وَالَّذِي نَفْسِي بيده لَا يسألونني خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فيها حُرُمَاتِ اللَّهِ إلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا» [رواه البخاري]. هكذا يحلف الرسول صلى الله عليه وسلم قبل بدء المفاوضات أنه سيقبل كل خطة تعظَّم فيها الحرمات، ولو كان فيها شيء من التنازل للخصم الذي كان قد آذى وظلم, فحفظ الحرمات أولى من قهر الخصم وإذلاله.

إن الانطلاق ابتداء من عدم قبول أي تفاوض أو تنازل هو تصرف أخرق لا يجيزه دليل الشرع، ولا يقبله منطق العقل، ولا يستسيغه مفهوم العرف. ولن تكون نتيجته إلا المزيد من الاستعصاء، والمديد من الزمن.

وإن مما ينبغي التنبيه عليه: أنه من المعلوم شرعا وعقلا أن ترك المطالبة ببعض الحقوق في الدماء والأموال من أجل حفظ حقوق أخرى وحقنا للمزيد من سيل الدماء، ودرءا للمزيد من إهدار الأموال.

إن ترك المطالبة بتلك الحقوق من أجل تحقيق تلك الغاية جائز في الشرع؛ بل قد يكون واجبا من الواجبات، بل يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ” ومن هذا الباب‏:‏ القتال في الفتنة‏.‏ قال الزهري‏:‏ وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمعوا أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن فهو هدر.

زر الذهاب إلى الأعلى