آن الأوان حقا للجان الشعبية

اشتدت حبال الأزمة، وازداد الكرب، واحلولك الظلام، وفي ظلمة الليل البهيم تخرج الخفافيش من كهوفها، لتلطم من كان غافلا، وتنسل العقارب والحيات من جحورها لتلدغ من كان واقفا، وفي مثل هذه الظروف لا بد من اليقظة والانتباه، ولا مناص من التعاون والتكاتف، وإلا فهي الخسارة العامة، والفداحة التامة، والحسرات التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

لقد كانت فكرة اللجان الشعبية والحراسات الليلية فكرة عاقلة ذكية عطلت خطط المفسدين، وأوقفت تخريب المخربين، وجلبت الأمن والأمان للخائفين، وتكفلت بضمانة العيش للمعوزين. أمَّنت الأنفس وحمت الأعراض وحفظت الأموال، وتلك دون شك من أعظم الغايات الدينية، وأهم الأهداف الدنيوية، وحسبك بهذا دليلا على فضلها، وكفاك به برهانا على أهميتها، فضلا عن عمومات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تأمر بالتعاون والتآزر بين المسلمين.

قال الله عز وجل في كتابه العزيز: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، أمر الله عز وجل في هذه الآية بالتعاون على البر والتقوى، والتعاون تفاعل والمعاونة مفاعلة، والمفاعلة لا تكون إلا من اثنين أو أكثر أو بين طرفين أو أكثر, فالتعاون تفاعل من أطراف مختلفة من أجل أن يعين كل واحد منهم الآخر. والبر هو فعل الخير للنفس والمجتمع، والتقوى هي ترك ما هو شر على النفس أو المجتمع. ولا شك أن اللجان الشعبية من أعظم وسائل التعاون على البر والتقوى، وأن الحراسات الليلية من أبرز مظاهره. ونهى الله عز وجل عن التعاون على الإثم والعدوان، والإثم هو المعصية والذنب القاصر على النفس، والعدوان هو التعدي على الآخرين، ولا يجوز لمسلم بحال من الأحوال أن يعين أحدا على الإثم والمعاصي، ولا أن يعينه على الاعتداء على الآخرين، فالإعانة على الإثم والعدوان ليست من شأن أهل التقوى والإيمان, وإنما هي من خصال أهل النفاق والعصيان.

وفي الحديث عن أبي مُوسَى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» [رواه البخاري ومسلم].

ففي هذا الحديث شبه النبي صلى الله عليه وسلم حال المؤمنين في تماسكهم وتعاونهم باللبنات التي يرص بعضها فوق بعض، وتوضع بينها المادة التي تشد اللبنة إلى أختها من طين أو جص أو غيره، فتقوي اللبنة اللبنة، وتشد الواحدة الأخرى ليكون بسبب ذلك الجدار الصلب والبنيان المرصوص، وهذا هو المطلوب من المسلمين أن يكونوا متماسكين متآزرين متعاونين فيما بينهم حتى يكونوا جدارا صلبا أمام كل المخربين. ولولا هذا التآزر والتعاون والتلاحم لكانوا كالتراب المتناثر الذي تذروه الرياح، أو لبنات هشة تتحطم بأيدي العابثين.

وعن النُّعْمَانِ بن بَشِيرٍ رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إذا اشْتَكَى منه عُضْوٌ تَدَاعَى له سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» [رواه مسلم].

هذا حديث آخر يشبه فيه الرسول صلى الله عليه وسلم المجتمع المسلم بالجسد، والأفراد بأعضاء ذلك الجسد، الأعضاء المتماسكة المتناغمة التي يتأثر بعضها بتأثر الآخر، ويتألم بتألمه، فإذا أصيب عضو من الأعضاء بمرض سرت الحمى في سائر الأعضاء، وكان السهر للجسد كله، وهكذا ينبغي أن يكون أفراد المجتمع المسلم، يشعر بعضهم بألم بعض، ويعين بعضهم بعضا، ويتلاحمون فيما بينهم حتى يكونوا كالجسد الواحد. ما أحسن هذه التعابير! وما أعظم هذا الدين وما أعظم تعاليمه! ولكننا معشر المسلمين ربما نكون في بعد عن التطبيق والعمل.

ولا ننسى أن نذكر بأن للحراس من أجل حفظ الأنفس والأعراض ولأموال نصيبا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ من خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ في سَبِيلِ اللَّهِ» [رواه الترمذي].

فالفضل العظيم لأهل الجهاد والرباط في سبيل الله عز وجل. ولكن سبيل الله أوسع وفضله أعم, فلن يعدم حراس المسلمين من الأجر والمثوبة؛ لأن ذلك مما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى.

والحراسة من أجل المسلمين نوع من الرباط بمعناه العام الذي هو حبس النفس في سبيل الله، فمن حسنت نيته في هذه الحراسة فله أجر عظيم بإذن الله عز وجل؛ فعن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:«ألا أَدُلُّكُمْ على ما يَمْحُو الله بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قالوا: بَلَى يا رَسُولَ اللَّهِ، قال: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ على الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إلى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ» [رواه مسلم].

فإذا كان حبس النفس انتظارا للصلاة من الرباط في سبيل الله عز وجل فحراسة المسلمين ابتغاء مرضاة الله عز وجل من الرباط في سبيل الله؛ بل هو أقرب للجهاد والرباط بمعناه الخاص من الصلاة. والرباط بالمعنى الخاص هو ملازمة الثغر الذي يخيف العدو ويخاف المسلمون منه العدو، وذلك شأن آخر غير ما نحن فيه.

آن الأوان حقا للجان الشعبية، وحانت ساعة الصفر صدقا للحراسات الليلية، فقد دق ناقوس الخطر، وضربت الطبول معلنة رمي الشرر. فمتى يصحو النائمون إن لم يكن الآن؟ ومتى ينتبه الغافلون؟ أفبعد أن يفوت الأوان؟ فحي على اللجان الشعبية، والحراسات الليلية، والتحركات الأهلية. وفق الله الجميع لكل خير.

زر الذهاب إلى الأعلى