الشيخ عبدالرحمن كما عرفته

الشيخ عبدالرحمن كما عرفته

خواطر تلميذ:

لست في هذه الكلمات التي سأكتبها عن شيخنا العلامة عبد الرحمن بكير حفظه الله بالمؤرخ فيها لحياته أو المترجم له، وإنما هذه الكلمات اغتباط بصلتي به وتاريخ لذلك، مع إشارة إلى بعض فضائله، وبيان لبعض صفاته، وسأترك لقلمي العنان حتى يسيل مداده بما تمليه عليه القريحة مما أوحت به الروح، ونطق به الفؤاد، أسير فيه مع الزمن، دون أن أتقيد بترتيب معين.

الصيت يسبق اللقاء:

لا شك أن شيخنا العلامة عبد الرحمن بكير حفظه الله من أعلام حضرموت المعاصرين، فمن ذا الذي يعرف شيئا عن حضرموت والحضارمة وعن تاريخهم وثقافتهم ولا يسمع بالشيخ العلامة عبد الرحمن بكير حفظه الله؟

في أوائل الثمانينيات كنت فتى يافعا، وقدر لي أن أنظم إلى ركب شباب الصحوة، فسمعت حينذاك عن الشيخ العلامة عبد الرحمن بكير حفظه الله, غير أني سمعت أيضا أنه من الذين لا سبيل للوصول إليهم؛ لأنه محروس بعيون لا تعرف الغفلة، إبان الحقبة السوداء أو إن شئت فقل الحمراء, وكنا مع صغر سننا ملقّنون نعرف واقعنا وما يدور حولنا، وعرفت منذ ذلك اليوم أن هذا الشيخ غير مرغوب فيه من قبل الساسة؛ لأنه من النوع الذي لا يراوغ. ثم عرفت بعد أن قرأت كتاب الشيخ “قراءات في تاريخ حضرموت من خلال النصوص القرآنية” مدى الخطورة التي يشكلها الشيخ عبد الرحمن بكير حفظه الله على حمَلة الفكر الاشتراكي، فهو عالم فقيه، وثائر من ثوار الشريعة الإسلامية, ثائر على الكفر والنفاق، وثائر على الظلم والاستبداد، وثائر على الجهل والخرافة، فكيف لو تركوه وشأنه ليتفوه ببعض عنوانات كتابه المذكور آنفا، تأمل معي فقط هذه العنوانات:

“الإيمان بالغيب أعلى درجات الإيمان”, “الكفر ببعض الكتاب كفر به كله”, “الصهيونية والشيوعية من دسائس اليهود”, “ملاحدة.. قتلة.. مصائرهم.. نهاياتهم”، وهذا غيض من فيض.

وسنحت الفرصة:

مضت الأيام والليالي، وتغيرت الأحوال، وجاءت الوحدة بين شطري اليمن، وهبّت علينا بعض نسائم الحرية، فقدر لي أن ألتقي بالشيخ عبد الرحمن حفظه الله في بيته، كان ذلك بعد الوحدة مباشرة، وكان اللقاء محاضرة أو درسا ألقاه علينا فضيلة الشيخ حول تاريخ حضرموت بترتيب من أحد الدعاة.

وعرفت منذ تلك اللحظة أن الشيخ عبد الرحمن حفظه الله مؤرخ نقّادة، وكم تمنيت لو أن اللقاءات مع الشيخ استمرت، ولكن كل شيء بقدر معلوم. ولما صرت فيما بعد من تلاميذ الشيخ أهداني كتابه “القضاء في حضرموت في ثلث قرن”، فإذا هو مثال حي على عمق الشيخ في التاريخ، وعلى قدرته على سرد الأحداث، ونظمها في سلك واحد يسر الناظرين ويمتع الباحثين.

والشيخ عبد الرحمن حفظه الله تاريخ بذاته فهو شاهد على عصر الدولة القعيطية، وهو رجل على مشارف التسعين أمد الله في عمره، فهو كنز حقيقي، كيف وهو من قضاة تلك الدولة، وابن رئيس القضاء الأعلى فيها؟ وكم سيكون عظيما لو قدر للشيخ أن يكتب عن تلك الحقبة شيئا مفصلا؟

اقتربْتُ ولكن:

في الربع الثاني من سنة 1412هـ (الربع الأخير من سنة 1991م) جاءت فكرة توحيد العمل الدعوي بالمكلا، ولمّ شمل القائمين على الحلقات ليضمهم كيان واحد تحت إشراف العلماء، فدارت المحاورات وتمت اللقاءات، واكتملت الفكرة على تأسيس هيئة تحت اسم “الهيئة الإرشادية لرعاية حلقات القراءة والعلم بالمساجد”.

وتتكون هذه الهيئة من ثلاث لجان كالآتي:

الأولى: اللجنة الإرشادية الاستشارية، وأعضاء هذه اللجنة هم المشايخ: عبد الله محفوظ الحداد، عبد الرحمن عبد الله بكير، أحمد بن حسن المعلم.

الثانية: اللجنة العليا وهي اللجنة التي بيدها إدارة الهيئة.

الثالثة: اللجان الفرعية في المناطق (المكلا، الشرج، الديس..).

وتم تكوين “الهيئة الإرشادية” بعد موافقة المشايخ الثلاثة, وكان لي شرف عضوية “اللجنة العليا” من بين تسعة أعضاء من أحياء المكلا الثلاثة (المكلا، الشرج، الديس) فكانت لنا لقاءات بالمشايخ لكن هذا المشروع لم يكتب له النجاح؛ فذهب أدراج الرياح.

ومع ذلك فقد ظهر لي من استجابة الشيخ عبد الرحمن حفظه الله لهذا المشروع أنه كان يشعر بحاجة الصحوة وشبابها للتوجيه من قبل العلماء فأسرع أولا إلى تلبية الدعوة، ثم إنه لم ترق له بعض التصرفات فآثر الانسحاب غير المعلن أو قل غيره انسحب عنه، فضاعت منا فرصة الأخذ عن الشيخ.

لقد كان الشيخ عبد الرحمن حفظه الله حريصا على توجيه دفة الصحوة المباركة بحضرموت متحمسا لذلك لكنه رأى إدباراً من الشباب فقد كانوا في واد آخر، وهكذا خسر الشباب الانتفاع بهذا الشيخ الجليل وبفقهه إلا ما شاء الله.

وجاء دور السياسة:

للشيخ عبد الرحمن بكير حفظه الله دوره السياسي الفاعل في عهد الدولة القعيطية والحزب الوطني، وكان من الناقمين المنكرين على تصرفات الاستشارية البريطانية وعلى بعض تصرفات المذبذبين؛ بل وعلى بعض تصرفات السلاطين الخانعة لإرادة المستعمر البغيض، وقد جاش نفَس الشيخ بشيء مما في صدره في مقدمة كتابه “القضاء في حضرموت في ثلث قرن” فكان مما قال: “..وإلى جانب ذلك وبعده السلطة الفعلية للإنجليز في هذا البلد الأمين وتأثر الوزراء بها والسلاطين لاسيما في أخريات الأيام مما كانت تعكسه آراؤهم وتصرفاتهم في كل شيء في المنطقة، ومما يخادعون به الجماهير تنفيذاً لرغبات أسيادهم من المستعمرين وبما يتظاهرون به من إصلاح، وهم في نفس الوقت ينافقون لخدمة طواغيتهم”.

ثم جاء عهد الجبهة القومية والحزب الاشتراكي فكان حظ الشيخ عبد الرحمن حفظه الله في تلك الفترة هو السجن والإبعاد والإقامة الجبرية وتقييد الحركة. فلما جاءت الوحدة اليمنية زال الكابوس الذي كان يجثم على صدورنا، واستروحنا شيئا من نسائم الحرية حتى ظننا أن الحرية فد فتحت لنا أبوابها مشرعة وإلى الأبد.

وتأسس بعد الوحدة حزب “التجمع اليمني الإصلاح” بتحالف الإخوان المسلمين مع القبائل وبعض المستقلين من العلماء والدعاة وغيرهم، فظن الشيخ عبد الرحمن حفظه الله أنه وجد ضالته المنشودة ووسيلته للإصلاح والتغيير، فكان عضواً في هذا التجمع، لا؛ بل قياديا فيه، ورئيساً لمجلس شوراه بحضرموت، وللشيخ عبد الرحمن تاريخ مع “التجمع اليمني الإصلاح” جدير بأن يكتب عنه بعض من كان قريبا من الشيخ في تلك المرحلة، أن يكتب عن دور الشيخ عبد الرحمن في بناء “التجمع اليمني الإصلاح” وعن خلافه معه فيما بعد، وعن أسباب هذا الخلاف التي حملت الشيخ على ترك “التجمع اليمني الإصلاح”، وترك خوض غمار السياسة بالكلية.

أما أنا فسيكون حديثي منحصراً في نقطتين: إحداهما تتعلق بارتباط الشيخ عبد الرحمن بـ “التجمع اليمني الإصلاح”، والأخرى تتعلق بفك ذلك الارتباط:

أما النقطة الأولى:

فإن ارتباط الشيخ عبد الرحمن حفظه الله بالتجمع اليمني للإصلاح الذي يمثل جناح(الإخوان المسلمين) أثر سلباً على علاقته بشباب الصحوة الذي كانت فيه موجة التيار السلفي أشد وأعتى، ولا أنكر أن هذا كان بسبب الجهل بحقيقة السلفية، فالسلفية أساسها حسن التعامل مع الآخرين، وفي مقدمتهم العلماء، فكيف إذا كان هذا العالم من العلماء الذين لهم دور فاعل في محاربة الشرك والخرافة والتقليد الأعمى؟ لكن هذا كان هو الواقع؛ بل كانت جماعة من التيار السلفي تحارب الجميع باسم محاربة الحزبية فلم يسلم من جرحهم أحد, حتى الجماعات السلفية المنظمة التي تؤمن بالعمل المؤسسي! فكيف يسلم منها حزب (الإخوان المسلمين) ورموزه؟

لقد كانت تلك الجماعة التي سماها بعض الدعاة (سلفية الولاة) صنيعة بعض الأجهزة الأمنية في بعض دول الجوار، ولولاها لكان التيار السلفي قد خطا خطوات جبارة في النمو والتطور في جانب الوسائل والنظم، ولكنه قدر الله وله فيه حكمه، والشاهد أن الشيخ عبد الرحمن حفظه الله كان من الموضوعات المثارة في تلك الفترة بين جماعة الحكمة التي تقدر شأنه الشيخ عبد الرحمن حفظه الله و(سلفية الولاة), ففي حفل تخرج أول دفعة من معهد حضرموت للعلوم الشرعية دعي الشيخ عبد الرحمن بكير حفظه الله وحضر، وكان ذلك بمسجد الشهداء، ورتبت للشيخ عبد الرحمن حفظه الله كلمة في ذلك الحفل بطبيعة الحال، فلما قام ليلقي كلمته نهض إليه الشيخ أحمد المعلم حفظه الله وقبّله على رأسه، فعُدَّ ذلك عند (سلفية الولاة) من مثالب الشيخ أحمد حفظه الله وهو من مناقبه، وإذا بـ(أعضاء حزب محاربة الحزبية) يطيرون بذلك في الآفاق، وينتشر الخبر بأن المعلم يعظّم الصوفية، ويقبّل أحد كبار علمائهم في أحد المساجد، وكثرت المقالات على الشيخ أحمد المعلم حفظه الله من قبل أولئك القوم فلم نزل به نحمسه على الرد وهو صابر محتسب، والدفاع عن النفس قد كفله الشرع، حتى كان منه الرد شعراً لا نثراً، وإذا بملحمة الشيخ أحمد (الدفاع الأمجد عن الطريق الأرشد) تبدد كل الأقاويل التي يهرف بها من لا يعرف، قال الشيخ أحمد حفظه الله في مطلع القصيدة:

قالوا نكصت عند الطريق الأرشدِ *** قطعاً وصرت إلى خراب المقصد

إلى أن قال:

وبأنني قبّلت رأس مخرِّف *** كذبوا وما عبئوا بملء المسجدِ

كذبوا وقد قذفوا الذي يعنونه *** ورموه مـن حقدٍ بسهمٍ أنكدِ

ما كان صوفيا ولا بمخرِّفٍ *** يوماً ولا كَلِفاً بتقبيل اليـدِ

فهذه الأبيات في الدفاع عن الشيخ عبد الرحمن بكير حفظه الله.

وأما النقطة الثانية:

فتتعلق بفك الارتباط مع “التجمع اليمني الإصلاح”، فالشيخ عبد الرحمن بكير حفظه الله لم تكن له عداوة أو خلاف شخصي مع أحد، ولكن الشيخ عبد الرحمن بكير حفظه الله رأى أن ثمة تملق للحاكم، وتلميع للظالم، ومهادنة للظلم، وأن الحرية والعدالة التي فرحنا بقدومها ما هي إلا {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39]، فيئس الشيخ عبد الرحمن بكير حفظه الله من الإصلاح من هذا الطريق، وربما تكون ثمة أسباب أخرى لا نعرفها، لكن الذي نعرفه أن الشيخ عبد الرحمن بكير حفظه الله يكره مهادنة الحكام والسلاطين، ويأبى السكوت على باطلهم، وكثيرا ما يحذر من القرب منهم، ومن يتأمل في مجموعة الأحاديث التي اختارها الشيخ عبد الرحمن بكير حفظه الله لكتابه “على مائدة الهدي النبوي” يجد جملة من الأحاديث ليست بالقليلة تتعلق بالأمراء والسلاطين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقول كلمة الحق، والرفق بالأمة، والتحذير من المنافقين والمتملقين، وجملة منها كثيرة تتعلق بالزهد في الدنيا والاستعداد للآخرة، نسأل الله أن يجعلنا من أهل الآخرة، ولا يجعلنا من أهل الدنيا.

أحلى الأيام:

لم تنقطع صلتي بالشيخ عبد الرحمن حفظه الله، فقد كنت أزوره في بيته بمعية شيخنا العلامة أحمد المعلم حفظه الله في مناسبات متفرقة، وفي سنة 1998م أنشئ مجلس علماء أهل السنة والجماعة بحضرموت، وشرفت بعضوية هذا المجلس كطالب علم يؤازر العلماء ويكثِّر سوادهم، وكان الشيخ عبد الرحمن حفظه الله من رؤوس هذا المجلس فحضرت عدة لقاءات لهذا المجلس في بيت الشيخ عبد الرحمن حفظه الله، غير أنه إلى تلك اللحظة لم تكن لي به صلة خاصة.

حتى جاءت الفرصة السانحة للتلقي عن الشيخ عبد الرحمن حفظه الله مباشرة، كان ذلك في شهر شعبان لعام 1423هـ الموافق لشهر أكتوبر 2002م، اتفقت مع مجموعه من الزملاء على محاولة القرب من الشيخ عبد الرحمن حفظه الله والأخذ عنه, وكان وسيطنا الشيخ سالم عمر باسماعيل حفظه الله، وتمت الموافقة من قبل الشيخ عبد الرحمن حفظه الله كيف لا وهو الحريص على نشر العلم والخير؟ ولكن الجفوة كانت من قبلنا، لم يكن الشيخ بخيلا علينا في الوقت فقد كنا نقرأ عليه في ثلاثة أيام “السبت والثلاثاء والأربعاء” من الساعة العاشرة صباحاً حتى الظهر قرأنا عليه أولاً “نسيم الحياة على سفينة النجاة” لوالده وكان مخطوطا فراجعه وطبعه بعد قراءته عليه, وأتحفنا في مقدمة المطبوعة بتزكية نفتخر بها، وهذه أسماء هذه المجموعة بحسب ترتيب أسمائهم الأبجدية:

1) سالم بن عمر بن سالم باسماعيل.

2) صالح بن محمد بن عبد الرحمن باكرمان.

3) صالح بن مبارك بن أحمد دعكيك.

4) فارس بن طالب العزاوي العراقي.

ثم انضم إلى هذه المجموعة بآخره:

5) حسين علي بن محفوظ.

ثم قرأنا على الشيخ “المختصر الصغير” لـ بافضل، وقرأنا عليه كتابه “نماذج من فقه القضاء وفقه الفتوى بحضرموت”، وشرعنا في القراءة في “منهاج الطالبين” للنووي رحمه الله، ثم تحولنا عنه إلى “صوب الركام بشرح كتاب الأحكام” لابن عبيد الله وغيرها.

وظل برنامجنا مستمرا مع الشيخ عبد الرحمن حفظه الله لمدة تزيد على ثلاث سنوات من سنة 1423هـ إلى سنة 1426هـ، غير أنه اقتصر على اللقاء يوم الخميس نتيجة لظروف الشيخ الصحية، فكنا ننتظر هذا اليوم بفارغ الصبر، وكانت تلك الأيام هي أحلا الأيام مع الشيخ عبد الرحمن حفظة الله.

كنا في البداية نتهيب مجلس الشيخ لكننا اكتشفنا مع الأيام أن الشيخ حفظه الله على تواضع جم وأنه هيّن ليّن مع طلابه وأحبابه؛ بل تكاد الابتسامة لا تفارق محياة مع دعابة بالغة، لكن هذا كله يغيب عندما يذكر الحكام والساسة والمتملقون.

ووجدنا من الشيخ حفاوة بالغة بنا حتى أنه كان في أول أمره ربما استقبلنا واقفا عند باب المجلس، وأما عند الخروج فلا يترك القيام لتوديعنا في كل مرة، وتذكرت وهو يفعل بنا هذا كلمة يكررها شيخنا العلامة علي بن سالم بكير حفظة الله حيث قال مرارا: “زرت الشيخ عبد الله عوض بكير رحمه الله في شبابي، فلما قمت لأخرج قام لتوديعي”، فلم ينس الشيخ علي بكير حفظة الله تلك الحادثة, ولن أنس أنا وزملائي هذه الحفاوة وهذا التقدير من هذا الشيخ الجليل. ثم لما ثقل الشيخ في الآونة الأخيرة صار الذي يستقبلنا ويودعنا ابنه الفاضل أبو أبان بهاء الدِّين، وهكذا يتوارث آل بكير هذه الأخلاق الفاضلة.

وفي مجلس الشيخ عبد الرحمن تتعرف على الكثير من الشخصيات الاجتماعية، فمجلسه مقصود من مختلف الفئات بمختلف الأطياف لاسيما في المناسبات، في رمضان والأعياد حيث يحرص الكثير على زيارة الشيخ، وفي تلك المجالس يكون الحديث عن الشخصيات والأنساب والتاريخ والفقه والسياسة، ونحن بدورنا نتصيد بعض ما يمكن صيده، ونقيد ما يمكن تقييده.

وأما درس الشيخ فلا يمل فهو يعلق تعليقات يسيرة وبعبارات واضحة، والأجمل في درسه أنه يبين المسائل بالأمثلة الواقعية، ويفسر الألفاظ بمعانيها في العامية، ويمتعنا ببعض الطرائف والقصص الواقعية والأشعار العربية والحمينية، أما عن استيعاب الشيخ للمسائل الفقهية لاسيما ما يتعلق منها بالقضاء فحدث ولا حرج فهي عنده كشرب الماء؛ لأن حياته كلها كانت وقفا على ذلك.

والشيخ عبد الرحمن حفظه الله في فقهه عنصر مهم من عناصر “مدرسه ساحل حضرموت الفقهية” وهي مدرسة شافعية متحررة أساسها الشيخان الكبيران الشيخ محسن بن جعفر بونمي والشيخ عبد الرحمن بن عوض بكير، وللشيخ عبد الرحمن حفظه الله فضل كبير في إبراز قيمة هذه المدرسة من خلال كتابيه: “نماذج من فقه القضاء وفقه الفتوى بحضرموت” و”القضاء في حضرموت في ثلث قرن”.

والأساس الذي قامت عليه هذه المدرسة هو عدم التعصب لمعتمد مذهب الشافعية، والأخذ بمقابل الأصح في المذهب عند الحاجة؛ بل والأخذ بمسائل من المذاهب الأخرى عند عدم وفاء المذهب بما يتوافق وقواعد الشريعة القائمة على تحصيل المصلحة ودفع الضرر وطلب اليسر.

والحديث عن تلك المدرسة ذو شجون.. وكذلك الحديث عن فقه الشيخ عبد الرحمن حفظه الله.

ولئن انقطعت دروس الشيخ عبد الرحمن نتيجة ظروفه الصحية فلم ينقطع اللقاء به وزيارته في المناسبات، وسنظل تلاميذ أوفياء لشيخنا العلامة عبد الرحمن بكير حفظه الله.

وأودع هذه الصفحات وإن لم أعط الحديث حقه، ولقد تركت جوانب كثيرة من حياة الشيخ، وآمل أن يتسنى لي أو لغيري حديث مستفيض عن الشيخ عبد الرحمن حفظه الله، أو ربما رسالة أكاديمية لبعض شبابنا يدرس فيها حياة الشيخ عبد الرحمن حفظه الله من كل جوانبها، والله ولي التوفيق والسداد.

زر الذهاب إلى الأعلى