أريجُ العطر بفضائل العشر
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الله عز وجل إنما خلقنا لعبادته , واستخلفنا في هذه الأرض لينظر كيف نعمل , ولينظر أينا أحسن عملا , كما قال سبحانه وتعالى : ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ )) [الملك: 2] . وأمرنا الله عز وجل بأن نعد العدة وأن نتخذ الزاد ليوم المعاد فقال سبحانه وتعالى : (( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ )) [البقرة: 197]. وحثنا جل في علاه على محاسبة النفس والاستعداد ليوم لقاه فقال عز من قائل : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ . وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ . لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ)) [الحشر: 18 – 20] .
وحثنا الله عز وجل على المسارعة في الخيرات فقال سبحانه وتعالى : (( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)) [آل عمران: 133] .
وها هو ذا موسم الخيرات قد أقبل , وها هو موسم المسارعة والمسابقة قد دنى , وها هي عشر ذي الحجة الأيام العظيمة الفاضلة التي لها منزلة عظيمة عند الله عز وجل ودرجة رفيعة , وفضل كبير قد أقبلت . بل هي أفضل أيام السنة على الإطلاق , وهي أفضل من أيام شهر رمضان المبارك , موسم الخير وموسم الفضل وموسم المسارعة والمسابقة إلى الخيرات , وينبغي للعبد أن يتذكر ما خلق لأجله من تحقيق العبودية لله تعالى , وينبغي للعبد أن يتذكر أنه يصير إلى الله سبحانه وتعالى فلا ينفعه إلا ما قدم , وينبغي للعبد أن يتذكر أنه في أمس الحاجة إلى إعداد العدة لذلك اليوم , ولا ريب أن مواسم الخير فيها أعظم الفرصة للتعويض عما فات , وللتزود من الخير قبل الممات . وعشر ذي الحجة هي خيار من خيار في مواسم الخيرات .
إن الله عز وجل يخلق ما يشاء ويختار , قال الله عز وجل :(( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ))[القصص:68]. فالرب جل جلاله هو وحده الخالق لكل شيء , وهو وحده الذي يختار ويصطفي من خلقه ما يشاء, وقد اختار الله عز وجل وفضَّل من خلقه ما شاء من الأشخاص والأقوال والأفعال والأمكنة والأزمنة , ومما اختاره الله عز وجل وفضَّله من الأزمنة وضاعف أجر العمل فيه العشر من شهر ذي الحجة حيث فضّلها الله عز وجل على سائر الأيام , وضاعف أجر العمل فيها للأنام , وهذه بعض أدلة الكتاب والسنة على ذلك :
1 – فمما يدل على فضل عشر ذي الحجة أن الله عز وجل أقسم بها في كتابه العزيز فقال جل جلاله وعز كماله :((وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ . وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ . وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ . هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ))[الفجر:1-5 ]. والليالي العشر هي عشر ذي الحجة في قول الجماهير من علماء السلف والخلف , وقد نقل الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله إجماع الحجة من أهل التأويل عليه . وقال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى : ” والليالي العشر: المراد بها عشر ذي الحجة. كما قاله ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد، وغير واحد من السلف والخلف “. وإقسام الله عز وجل بالليالي العشر يدل على فضلها ومنزلتها عنده ؛ لأن القسم بالشيء يدل على فضله وتعظيمه.
2- ومما يدل على فضل عشر ذي الحجة أن الله عز وجل ذكرها ذِكْر المحتفي بها في كتابه , ووصفَها بالمعلومات واختارها لذِكره فقال جل جلاله : (( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ))[الحج:28]. قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى : ” عن ابن عباس: الأيام المعلومات: أيام العشر، وعلقه البخاري عنه بصيغة الجزم به . ويروى مثله عن أبي موسى الأشعري، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والضحاك، وعطاء الخراساني ، وإبراهيم النَّخعي. وهو مذهب الشافعي، والمشهور عن أحمد بن حنبل “.
3 – ومن فضائل العشر من ذي الحجة أن الله عز وجل أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة في يوم عرفة من هذه العشر , قال الله عز وجل :((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ))[المائدة:3]. قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى : ” هذه أكبر نعم الله ، عز وجل، على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم ، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم، صلوات الله وسلامه “.
وفي الأثر عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ لِعُمَر رضي الله عنه:َيَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ,لَوْ أَنَّ عَلَيْنَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا )) لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا . فَقَالَ عُمَرُ :”إِنِّي لأَعْلَمُ أَيَّ يَوْمٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ،نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ “.رواه البخاري ومسلم. أي أنها نزلت في يوم عيد مضاعف , فيوم عرفة من أيام العيد , ويوم الجمعة يوم عيد .
4- ومن فضائل العشر من ذي الحجة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صرح بأنها أفضل أيام السنة على الإطلاق:
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ قَالَ : « مَا الْعَمَلُ في أَيَّامِ الْعَشْرِ أَفْضَلَ مِنَ الْعَمَلِ في هَذِهِ » . قَالُوا : وَلاَ الْجِهَادُ قَالَ : « وَلاَ الْجِهَادُ ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بشيء » . رواه البخاري بهذا اللفظ ,ورواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه بلفظ « مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ ». يَعْنِى أَيَّامَ الْعَشْرِ. قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ : « وَلاَ الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللَّهِ إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بشيء ».
وعن ابْنِ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ -: “مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ فِيهِنَّ الْعَمَلُ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ: عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ- أَوْ قَالَ: الْعَشْرُ- فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ”. رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو يَعْلَى، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.
فهذان الحديثان صريحان في أن العشر من ذي الحجة هي أفضل أيام السنة على الإطلاق , وأن العمل الصالح فيها أفضل من العمل فيما سواها من سائر الأيام , حتى أن العمل فيها يفضل الجهاد في سبيل الله الذي هو أفضل الأعمال وذروة سنام الإسلام , ولا يستثنى من ذلك إلا من خرج مجاهدا في سبيل الله بنفسه وماله , فأنفق ماله في سبيل الله , وأسلم روحه رخيصة لإعلاء كلمة الله , فلم يرجع مال ولا نفس , فذلك وحده الذي يفضل العمل في هذه الأيام الفاضلة . وهذا بلا شك يدل على الفضل العظيم والأجر الجزيل للعمل الصالح في العشر ذي الحجة , فهل يليق بمسلم بعد معرفة هذا الفضل العظيم أن يتكاسل عن العمل في هذه العشر , أو يتوانى عن الاستباق إلى الخيرات فيها؟ فشمروا أيها المسلمون عن سواعد الجد والاجتهاد , وابذلوا ما بوسعكم من العمل الصالح في عشر ذي الحجة .
– ومن فضائل العشر من ذي الحجة أن فيها يوم عرفة , ويوم عرفة من أفضل أيام السنة , بل ذهب الشافعية إلى أنه أفضل أيام السنة على الإطلاق , وقد جاءت الأحاديث بفضله , وأبانت النصوص عن علو قدره :
فعَنْ أَبِى قَتَادَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ : « يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ ». رواه مسلم.
وعن عَائِشَةُ رضي الله عنها أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: « مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ , وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِى بِهِمُ الْمَلاَئِكَةَ فَيَقُولُ : مَا أَرَادَ هَؤُلاَءِ ». رواه مسلم .
ويوم عرفة هو اليوم الذي أكمل الله عز وجل لنا فيه الدين وأتم علينا النعمة , وسبق أن ذكرنا هذا .
4- ومن فضائل العشر من ذي الحجة أن فيها يومَ النحر : ويوم النحر هو يوم الحج الأكبر عند مالك والشافعي وأحمد والجمهور , قال الله عز وجل : (( وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ )) [التوبة:3]. فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال : وَقَفَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِى الْحَجَّةِ الَّتِى حَجَّ – بِهَذَا – وَقَالَ :« هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الأَكْبَرِ » ، فَطَفِقَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ « اللَّهُمَّ اشْهَدْ » . وَوَدَّعَ النَّاسَ . فَقَالُوا هَذِهِ حَجَّةُ الْوَدَاعِ .. رواه البخاري.
ويوم النحر هو أفضل أيام السنة على الإطلاق عند جمهور أهل العلم ؛ لما ورد عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ قُرْطٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ : « إِنَّ أَعْظَمَ الأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ » . رواه أبو داود وغيره . ويوم القر : هو اليوم الذي يلي يوم النحر (الحادي عشر من ذي الحجة) سمي كذلك لأن الحجيج يستقرون فيه بمنى .
فدونكم أيها المسلمون هذا الموسم العظيم من مواسم الخير ؛ بل هو أعظم مواسم الخير على الإطلاق , فلا يُفَوِتَنَّ أحدكم على نفسه هذه الفرصة العظيمة , فالبدار البدار إلى العمل أيها المؤمنون لا يفوتنكم موسم الخير وسوق الربح المضاعف , فإنما هي أيام معلومات , وأوقات ٌ محدودات , وساعاتٌ معدودات ؛ فأكثروا فيها من الطاعات , ولنجدَّ في العمل الصالح لعل الله عز وجل أن يرفع لنا الدرجات , ويضاعف لنا الحسنات , ويحط عنا السيئات إنه جواد كريم .
أبو مجاهد صالح بن محمد بن عبد الرحمن باكرمان .