خطبة سيرة الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- مع اليهود
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً به وتوحيدا، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيدا.
أما بعد، أيها المسلمون عباد الله، اتقوا الله حق تقواه. { یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ }[سُورَةُ آلِ عِمۡرَانَ: ١٠٢].
عباد الله، كلنا يعلم أن طوائف من اليهود كانوا يقطنون المدينة من قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجاء الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- وهم بالمدينة، فما قصة مجيئهم إلى المدينة؟ وما كان موقفهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ وكيف كانت سيرة الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- معهم؟ وما هي الخلاصة التي يستنبطها المسلم من ذلك؟
أما قصة وجودهم في المدينة فالرواية الأرجح أنهم قدموا إلى المدينة من الشام بحثاً عن مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فاليهود والنصارى كانوا ينتظرون نبيا بَشَّر به موسى وعيسى عليهما السلام، وكانوا يعرفون صفاته معرفة دقيقة، كما قال الله -عز وجل-: { ٱلَّذِینَ ءَاتَیۡنَـٰهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ یَعۡرِفُونَهُۥ كَمَا یَعۡرِفُونَ أَبۡنَاۤءَهُمۡۖ وَإِنَّ فَرِیقࣰا مِّنۡهُمۡ لَیَكۡتُمُونَ ٱلۡحَقَّ وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ }[سُورَةُ البَقَرَةِ: ١٤٦].
وكانوا يعرفون صفات المدينة التي سيبعث فيها معرفة دقيقة، وأنها أرض ذات نخل بين حرتين، فبحثوا عنها حتى وصلوا إلى المدينة، فعرفوها بصفاتها فلم يشكُّوا فيها، فاستوطنونها انتظاراً لمبعث نبي آخر الزمان، وكانوا يأملون أن يكون منهم، وكذلك فعل سلمان الفارسي -رضي الله عنه- الذي كان مجوسياً ثم تنصر، فعلم من آخر معلميه من الرهبان أن نبي آخر الزمان قد أظل زمانه، وأن مبعثه في أرض ذات نخل بين حرتين، فلما وصل إلى المدينة لم يشك أنها هي، وكذلك هؤلاء اليهود، وكانوا إذا تقاتلوا مع العرب، مع الأوس والخزرج، فغُلبوا قالوا للأوس والخزرج: ” إن نبي آخر الزمان قد أظل زمانه، وإنه يبعث الآن فنتبعه، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم”.
فلما جاء الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- سارع إليه الأوس والخزرج، وأما اليهود فإنهم لما رأوه ليس منهم وإنما من العرب كفروا به؛ حسدا من عند أنفسهم، قال الله تعالى: { وَلَمَّا جَاۤءَهُمۡ كِتَـٰبࣱ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقࣱ لِّمَا مَعَهُمۡ وَكَانُوا۟ مِن قَبۡلُ یَسۡتَفۡتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ فَلَمَّا جَاۤءَهُم مَّا عَرَفُوا۟ كَفَرُوا۟ بِهِۦۚ فَلَعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَـٰفِرِینَ }[سُورَةُ البَقَرَةِ: ٨٩].
كانوا يستفتحون على الذين كفروا من العرب، أي: كانوا يستنصرون به عليهم، فلما جاءهم وقد عرفوه كفروا به على رغم معرفتهم به، ولم يؤمن به منهم إلا القليل، كعبد الله بن سلام رضي الله عنه، وفيه أنزل الله -عز وجل- على أحد القولين في تفسير الآية: { قُلۡ أَرَءَیۡتُمۡ إِن كَانَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرۡتُم بِهِۦ وَشَهِدَ شَاهِدࣱ مِّنۢ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ عَلَىٰ مِثۡلِهِۦ فَـَٔامَنَ وَٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ }[سُورَةُ الأَحۡقَافِ: ١٠].
وأما سيرة الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- مع اليهود فهي سيرة حافلة بالأحداث الجسام، وتبدأ سيرة الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- معهم من أول لحظات له بالمدينة، حيث كتب بينه وبينهم الصحيفة، وعقد معهم الميثاق بأن يكونوا لحمة واحدة في المدينة، يتعايشون تعايشاً سلميا، ويدافعون جميعاً عن المدينة، وعاملهم الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- بالتسامح، ولم يفرض عليهم عقيدته، ثم ماذا حدث؟ غدروا به جميعاً قبيلة قبيلة، ونقضوا العهد الذي في الصحيفة.
وكان أول من غدر منهم بنو قينقاع، حيث تآمر طائفة منهم في سوق بني قينقاع على كشف عورة امرأة مسلمة، فصرخت المرأة، وكان في السوق رجل من المسلمين، فسل سيفه وقتل اليهودي الذي كشف عورتها، فقام عليه اليهود الذين في السوق فقتلوه، ووصلت أخبار هذه الحادثة الشنيعة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، حادثة واحدة في امرأة واحدة لم يسكت لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجعلها كافية لنقض العهد، فانطلق النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هو وأصحابه لحصار بني قينقاع وكان ذلك في قوله تعالى { قُل لِّلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَتُغۡلَبُونَ وَتُحۡشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ (١٢) قَدۡ كَانَ لَكُمۡ ءَایَةࣱ فِی فِئَتَیۡنِ ٱلۡتَقَتَاۖ فِئَةࣱ تُقَـٰتِلُ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَأُخۡرَىٰ كَافِرَةࣱ یَرَوۡنَهُم مِّثۡلَیۡهِمۡ رَأۡیَ ٱلۡعَیۡنِۚ وَٱللَّهُ یُؤَیِّدُ بِنَصۡرِهِۦ مَن یَشَاۤءُۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَعِبۡرَةࣰ لِّأُو۟لِی ٱلۡأَبۡصَـٰرِ (١٣) }[سُورَةُ آلِ عِمۡرَانَ: ١٢-١٣]. ولكن اليهود لم يعتبروا.
ثم كانت في السنة الرابعة من الهجرة قصة مذبحة بئر معونة في صحابة الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم ورضوان الله عليهم- من قِبل بني عامر، من أهل نجد، ولم يفلت منهم إلا عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه، وفي طريق عودته إلى المدينة لقي اثنين من بني عامر فقتلهما، ولما رجع إلى المدينة واطلع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على الأمر، أخبره أن هذين الرجلين قد أعطاهم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عهدا، وعزم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على دية الرجلين، وانطلق هو وجماعة من أصحابه، فيهم أبو بكر وعمر -رضي الله عنهم- إلى حصون بني النضير، يستعين بهم على دية الرجلين العامريين، على مقتضى صحيفة العهد، فرحب به يهود بني النضير، وقالوا: يامحمد، اجلس واسترح في هذا الحائط[أي: البستان] أنت وأصحابك، ريثما نجمع المال ونصنع الطعام. فجلس النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- مع جماعة من أصحابه تحت بناء لهم، فانطلق اليهود يتشاورون فيما بينهم، ويتآمرون على اغتيال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وسبق إليه الوحي، أخبره الله -عز وجل- بمؤامرة اليهود، فانطلق هو وأصحابه دون إذن منهم ورجع إلى المدينة، ولكنه الرحمة المهداة صلوات ربي وسلامه عليه، أرسل إليهم محمد بن مسلمة، وقال لهم: قد غدرتم ونقضتم الصحيفة، فانطلقوا واخرجوا من المدينة ولا تساكنوني فيها، وأمهلتكم عشرا[ عشرة أيام]. فأرسل إليهم المنافق عبدالله بن أبي بن سلول وقال لهم: اثبتوا {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ} [سورة الحشر: ١١].
اثبتوا وسوف تأتيكم غطفان وقريظة، ويقاتلون معكم، فغرهم الشيطان، وقالوا لمحمد بن مسلمة: ارجع إليه، وقل له فليفعل ما يشاء، فلما وصل الخبر إلى الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: الله أكبر، الله أكبر. ودعا أصحابه، أمر الصحابة أن يتجهزوا لحصار بني النضير، فانطلق هو وأصحابه، انطلق الرسول الكريم -صلى الله عليه وآله وسلم- وأصحابه الكرام -رضوان الله عنهم أجمعين- فحاصروا بني النضير في حصون محصنة، وهم لا يقاتلون إلا في الحصون المحصنة، كما قال الله -سبحانه وتعالى- عن اليهود: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ}[سورة الحشر: ١٤].
هؤلاء هم اليهود، حاصرهم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وقذف الله -عز وجل- في قلوبهم الرعب، حاصرهم نحو خمس وعشرين ليلة، ولما امتنعوا عمد إلى نخلهم -نخل عظيم في منطقة يقال لها البويرة- فأمر بحرقه -صلى الله عليه وآله وسلم- حتى يحرق قلوبهم، فاحترقت قلوبهم بحرق البويرة، وهان على سراة بني لؤيٍ حريقٌ بالبويرة مستطيرُ، فأرسلوا إلى الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- يقولون: يا محمد، ألست تدعي أنك تدعوا إلى الصلاح؟ أليس هذا من الإفساد في الأرض؟ يريدون أن يقلقوا قلوب الصحابة ويشوشوا، فأنزل الله -سبحانه وتعالى-: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (٥)} [سورة الحشر: ٥].
فأصر عليهم الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- وضغط عليهم بالحصار، حتى نزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فحكم عليهم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بأن يجلوا من المدينة، وأن لا يحملوا درهما، ولا دينارا، ولا يحملوا السلاح، ولهم ما حملته الإبل من أموالهم، فأخذوا يحملون البضائع والأملاك، حتى إن أحدهم يكسر بيته ويخرب بيته؛ من أجل أن يأخذ باباً أو عودا، صاروا يخربون بيوتهم وصدق فيهم قول الله -سبحانه وتعالى-: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } [سورة الحشر: ٢].
اعتبروا يا أولي الأبصار، خذوا العبرة يا أولي الأبصار، ويا أصحاب العقول، خذوا العبرة هؤلاء هم اليهود، يهود هذا الزمان كيهود ذلك الزمان {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [سورة الحشر: ١٤]. نهايتهم إلى الرعب والهزيمة، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
فأجلاهم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من المدينة، فذهبوا إلى خيبر ولهم في خيبر قصة وحرب.
أسال الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلني وإياكم من أهل الاعتبار! قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان الا على الظالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، أيها المسلمون عباد الله، اتقوا الله حق تقواه. عباد الله، ونمضي في السيرة مع اليهود، ويأتي دور خيانة بني قريظة في السنة الخامسة من الهجرة لينطلق يهود بني النضير من خيبر الذين أجلاهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ ما زالوا بالقرب من المدينة ومن العرب، انطلق جماعات منهم إلى مكة، وحرضوا أهل مكة على الحرب، وقالوا نجمع العرب ونجمع الجيوش، ونبني التحالف من أجل ضرب أهل المدينة وضرب الإسلام، فاجتمعت قريش بقضها وقضيضها، وجمعوا معهم الأحابيش، وذهب اليهود إلى غطفان وأهل نجد، فجمعوا جموعاً عظيمة، حتى اجتمع جيش عظيم نحو عشرة آلاف مقاتل، وكلهم نحو المدينة، الأحزاب(التحالف)، الأحزاب الذين تحزبوا على الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- وعلى أهل الإسلام، حاصروا المدينة.
ومن فضل الله -عز وجل- أن ألهم سلمان الفارسي أن يخبر الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- بمكيدة الخندق، إلهام من الله مثل إلهام أهل غزة بمكيدة الخنادق والأنفاق، فضُرب الخندق وحُفر، ولم يستطع الأحزاب والألوف المؤلفة أن تقتحم المدينة، فأرادوا أن يكون لهم حليف من الداخل وهم بنو قريظة، فذهب إليهم حيي بن أخطب إلى حصنهم، إلى حصن كعب بن أسد، ونادى عليه، فلما رآه قال: اذهب، ارجع، لا أريد أن أخون محمدا، ارجع. فألح عليه فلم يفتح له، فقال له هذا الشيطان: إنما منعتني أن أدخل حصنك خشية أن آكل معك. فأخذته الحمية ففتح له، فأخذ يفتل له على الحابل والغارب، ويقول له: هذه نهاية محمد، جئنا بنحو عشرة آلاف، نحن من أعلى وأنتم من أسفل، انتهى الإسلام، وانتهى محمد وأصحابه. فاقتنع، الخيانة في الدم، كان خائفاً من الهزيمة فقط، فلما اعتقد أنهم سينتصرون خان العهد ووافق معهم.
ولما علم المسلمون دخل عليهم شيء كبير، هؤلاء من الداخل، وخافوا على الذرية والنساء، وصار المسلمون كما قال الله -عز وجل- في وصفهم:{إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (١١)} [سورة الأحزاب: ١١-١٢]. زلزلوا زلزالا شديدا في القلوب، لم يبق لهم قوة من أنفسهم، وانتهت الأسباب، فجاءت نصرة رب الأسباب سبحانه وتعالى، فأرسل الريح على الأحزاب {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (٢٥)} [سورة الأحزاب: ٢٥].
وتفرق الأحزاب بإذن الله، في وقت ظن فيه المؤمنون أنهم انتهوا، جاءت آية من الله -سبحانه وتعالى- ففرقت الأحزاب، وخلع الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- لأمة الحرب بعد غزوة الأحزاب بأيام طويلة، ودخل يغتسل -صلى الله عليه وآله وسلم- في بيت أم سلمة، فجاءه جبريل وهو يغتسل، وقال: يا محمد، نزعت لأمتك، أما إني لم أنزع لأمة الحرب ولا الملائكة، وإن الله -عز وجل- يأمرك أن تنطلق إلى بني قريظة، إلى الخونة، إلى أهل الغدر والخيانة.
فنزل النبي -صلى الله عليه وآله- ولبس لأمة الحرب، وقال لأصحابه: من كان يطيعني فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة. قال له جبريل: وأنا أمامك، أُدخل عليهم الرعب.
فانطلق الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- مع أصحابه، فحاصروا بني قريظة حصاراً شديدا، حتى رضوا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، يرجون أن يشفع فيهم، كما شفع عبدالله بن أبي في بني قينقاع، وشتان بين سعد بن معاذ الذي اهتز له عرش الرحمن لموته، المؤمن التقي، وبين ذاك المنافق! فجيء بسعد فحكم عليهم بالقتل، بقتل المقاتلة من الرجال، فقال له النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع أرقعة. فحبسهم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في بيت، وأخذهم واحداً واحدا، يقتلهم قتلاً ويحصدهم حصدا، وهو الرحمة المهداة صلوات ربي وسلامه عليه، لكنه يعلم أن هؤلاء الخونة ليس لهم إلا القتل والتصفية والإنهاء، فانتهت قريظة وانتهت أسطورة قريظة.
ثم جاءت بعد ذلك الحديبية والصلح مع قريش، وتهيأ للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يذهب لخيبر، وأن يفرغ لخيبر، فانطلق في أول السنة السابعة إلى خيبر بمن حضر من أصحابه، مِن خُلّص أصحابه في الحديبية، انطلق إلى خيبر، فلما نزل بساحتهم في أول الصباح بعد الفجر رأى بعضهم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأصحابه فقالوا: محمد، والله محمد والخميس. فقال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: خربت خيبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، وأغلقوا عليهم حصونهم، وكانت حصوناً منيعة، اشتد حصارهم والمناوشات بينهم وبين المسلمين، وبعد مضي زمن ومشقة فتح الله -عز وجل- عليهم خيبر حصناً حصنا، فأجلاهم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى أبعاد في الشام فانتهوا، كثير منهم مات بدعاء النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عليهم، وكان من آخر أمرهم أن حاولت امرأة منهم -بعدما عامل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- طائفة منهم على الأرض- أن تسمه بسم في شاة مصلية نضيجة، ولكن الله -سبحانه وتعالى- عصم نبيه من الموت.
هؤلاء هم اليهود، هذه سيرتهم، وموقفهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا موقف النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- منهم، هذه سيرتهم، هؤلاء هم اليهود أهل الخيانة، أهل الغدر، أهل البهت، أهل الحسد والحقد، أهل الكفر والضلال، هؤلاء هم اليهود لا يرعووا إلا بالقتل والطرد والإبعاد والشتات، كما كتب الله -عز وجل- عليهم، فلا بد أن يعودوا إلى الشتات، وما وقع لليهود في القديم سيقع لهم في الحديث، وكأن إخواننا في غزة وقد تحالفت عليهم الأحلاف كأهل المدينة في الأحزاب.
ونسأل الله -عز وجل- أن يأتيهم بنصره، فادعوا أيها الأحبة، اللهَ اللهَ في الدعاء لإخوانكم! ادعوا لأخوانكم، لا تقللوا من شأن الدعاء، لا تقللوا من شأن الدعاء، ولا تستكثروا عليهم الدعاء، ادعوا لهم بالنصر والظفر، ادعوا لهم بالحفظ والكلاءة، ادعوا لهم، الصالح والمقصر، لا تستصغر شأنك أيها المقصر، فإن الله -عز وجل- يجيب دعوة الداع إذا دعاه، ادعوا الله -عز وجل- بإخلاص، ادعوه بصدق، ادعوه وأنتم موقنون بالإجابة، ادعوه بإلحاح، قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦)} [سورة البقرة: ١٨٦]. فادعوا لهم يرحمكم الله، وانصروهم بكل ما تستطيعون.
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يمن علينا وعليكم بالخير والفلاح! اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات! اللهم خذ بأيدينا إلى كل خير! اللهم أبرم لهذه الأمة أمرا رشدا، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر! اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان! اللهم انصرهم في غزة وفلسطين! اللهم انصرهم نصراً مؤزرا، وافتح لهم فتحاً مبينا! اللهم ثبت أقدامهم، سدد رميهم، اجمع على الحق كلمتهم! اللهم أنزل عليهم آية من آياتك يا رب العالمين!
اللهم عليك بعدوك وعدوهم! اللهم عليك باليهود المعتدين! اللهم عليك باليهود الغادرين! اللهم عليك باليهود الخائنين! اللهم عليك باليهود ومن عاونهم! اللهم فرق جمعهم! اللهم شتت شملهم! اللهم فرق جمعهم وشتت شملهم! اللهم لا ترفع لهم راية، ولا تحقق لهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم عبرة وآية! اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم الظالمين! اللهم اشدد وطأتك على اليهود! اللهم اشدد وطأتك على اليهود والنصارى والمنافقين! اللهم اشدد وطأتك على اليهود!
اللهم احفظ إخواننا المستضعفين! اللهم رحماك بالمستضعفين من المسلمين في غزة وفلسطين! اللهم رحماك بالمستضعفين في كل مكان! اللهم رحماك بالمستضعفين من المسلمين في غزة وفلسطين! اللهم احفظهم من بين أيديهم، ومن خلفهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، ومن فوقهم، ومن تحتهم، ونعوذ بعظمتك أن يغتالوا من تحتهم! اللهم الطف بهم يا لطيف! اللهم الطف بهم يا لطيف! اللهم الطف بهم يا لطيف! اللهم أمنهم كما أمنتنا، واسقهم كما سقيتنا، وأطعمهم كما أطعمتنا، وآوهم كما آويتنا! اللهم خذ بأيديهم إلى السلام، وإلى الأمان، وإلى النصر، وإلى الظفر، يا رحمن يا رحيم!
عباد الله، وصلوا وسلموا على من أمركم الله -عز وجل- بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٥٦)} [سورة الأحزاب: ٥٦].
اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
عباد الله، إن الله يأمر بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء، والمنكر، والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.