خطبة وقفات مع حديث “إنما الأعمال بالنيات
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَموتُنَّ إِلّا وَأَنتُم مُسلِمونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢].
﴿يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُم مِن نَفسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنها زَوجَها وَبَثَّ مِنهُما رِجالًا كَثيرًا وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذي تَساءَلونَ بِهِ وَالأَرحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيكُم رَقيبًا﴾ [النساء: ١].
﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقولوا قَولًا سَديدًا يُصلِح لَكُم أَعمالَكُم وَيَغفِر لَكُم ذُنوبَكُم وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسولَهُ فَقَد فازَ فَوزًا عَظيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٠-٧١].
عباد الله، لقد أوتي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- جوامع الكلم، واختُصر له الكلام اختصارا، وسنته -صلوات ربي وسلامه عليه- زاخرة بالأحاديث التي هي من جوامع الكلم، والتي تعد من أصول الدين التي يتفرع عنها الكثير من المسائل، وتدخل في الكثير من الأبواب، ومن أعظم أحاديث الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- حديث الأعمال بالنيات، حديث جليل القدر، كبير الفائدة، كثير الفروع، قال أهل العلم: يدخل في سبعين باباً من أبواب الأحكام، والحديث يرويه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ونريد أن نقف عند هذا الحديث، وعند بعض معانيه ومعالمه، وما يتفرع عنه من حكم وسلوك.
ففي الحديث عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- : ” إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ “. رواه البخاري ومسلم .
(إنما الأعمال بالنيات) هذا يسميه العلماء أسلوب الحصر والقصر، أي ما الأعمال إلا بالنيات، ولا تكون الأعمال إلا بالنيات، ولا توجد الأعمال إلا بالنيات، وظاهر الحديث نفي وجود الأعمال بدون النيات، وهذا الظاهر غير مراد باتفاق أهل العلم؛ لأن الأعمال توجد من دون أن توجد النيات، ومن هنا قال العلماء: لابد من تأويل في الحديث، بحمل الحديث على المجاز، فذهب جمهور العلماء إلى أن التقدير “إنما صحة الأعمال بالنيات”، وذهب بعضهم إلى تقدير “إنما كمال الأعمال بالنيات”، والصحيح أن المعنى “إنما صحة الأعمال بالنيات”؛ لأن الصحة أقرب إلى الوجود، ونفي الصحة أقرب إلى نفي الوجود، والأصل أن النفي للوجود، فالمراد “إنما صحة الأعمال بالنيات” فلا تصح الأعمال إلا بنياتها، لا يصح عمل من الأعمال إلا بنيته.
ومن هنا استنبط العلماء واستخرجوا من هذه الجملة قاعدة عظيمة من قواعد الدين الخمس، التي يبنى عليها الدين، وهي قاعدة “الأمور بمقاصدها”، ومن فروعها أن النية شرط أو ركن في صحة الأعمال المشروعة، فلا يصح عمل عند الله -عز وجل- ولا يقبل عمل يتقرب به إلى الله -سبحانه وتعالى- إلا بالنية، فالوضوء لا يصح إلا بالنية، والتيمم لا يصح إلا بالنية، والصلاة لا تصح إلا بالنية، والزكاة والصوم والحج وغيرها من الأعمال المشروعة التي يتقرب بها إلى الله -سبحانه وتعالى- لا تصح إلا بنياتها، سواء قلنا النية شرط أو ركن في الأعمال.
(إنما الأعمال بالنيات) فلا عمل أي لا صحة لعمل ولا قبول لعمل عند الله -سبحانه وتعالى- إلا بالنية، فمن عمل عملاً ونواه قبل عند الله سبحانه وتعالى، ومن عمل عملاً ولم ينوه لم يقبل عند الله سبحانه وتعالى، فالنية شرط أو ركن في الأعمال، ويستثنى من ذلك:
- الأعمال القلبية، فلا تحتاج إلى نية: النية لا تحتاج إلى نية، والإيمان لا يحتاج إلى نية، والكفر لا يحتاج إلى نية، إذا قاله الإنسان أو عمله قاصداً للقول أو الفعل، فالاعتقادات وأعمال القلوب لا تحتاج إلى نية.
-ويستثنى من ذلك التروك، فلا تحتاج إلى نية: ترك المحرمات فضيلة وقربة لا يحتاج إلى نية إلا من جهة الفضل عند الله، فمن ترك الزنا فقد قام بالواجب الذي عليه، ولو لم ينوِ به ترك التقرب إلى الله، وإزالة النجاسة من التروك لا تحتاج إلى نية، فمن غسل جسده أو عضوه الذي فيه النجاسة وزالت نجاسته فقد ذهبت النجاسة، وإن لم ينوِ.
هذه هي الجملة الأولى من هذا الحديث، وفيها هذه القاعدة العظيمة “إنما الأعمال بالنيات”، ولابد أن نتنبه إلى أن المراد بذلك الأعمال المشروعة، التي يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، ويخطئ كثير من الناس، فيدخل في الأعمالِ الأعمالَ غير المشروعة المحرمة والمكروهة، ويظن أنها تتوقف على النيات، وهذا خطأ فالحرام حرام ولا ينقلب بالنية ولا يتغير، والمكروه مكروه ولا ينقلب بالنية ولا يتغير، الأقوال المحرمة محرمة، فمن سب الله، أو الرسول، أو شتم أحداً من الخلق، فقد وقع في الحرام، ولا يجوز له أن يقول: لم أنوِ السب، ولا الشتم، ولا التنقص، إنما الأعمال بالنيات. لا عبدالله، الأعمال التي يُتقرب بها إلى الله بالنيات، أما الأعمال المحرمة فهي محرمة، والمكروهة مكروهة ولا تغيرها النية، السرقة سرقة، لا يجوز للإنسان أن يسرق ويقول: إنما أسرق بنية أن أتصدق على الفقراء والمساكين. وكما قال الشاعر -لامرأة كانت تزني وتكسب المال؛ لتنفق على أيتامها-:
كَمُطعِمَةِ الأيتام مِن كسب فرجِها *** لكِ الويلُ لا تزني ولا تتصدّقي.
فينبغي لنا أن نعلم هذه المسألة حق العلم، الباطل باطل، والحرام حرام، والمكروه مكروه، ولا ينقلب بالنية إلى صالح، إنما ينقلب بالنية إلى الصلاح الأعمال المباحة:
- الأكل، إذا أكلت الطعام بنية التقوية
للعبادة أُجرت على ذلك. - المشي، إذا مشيت بقصد الطاعة لله
-عز وجل- أُجرت على ذلك. - النوم، إذا نمت بقصد التقوية على
طاعة الله -عز وجل- أُجرت على ذلك.
عباد الله، والجملة الثانية “وإنما لكل امرئ ما نوى”، وهي جملة مستقلة -على الصحيح- مؤسسة لمعنى آخر عن المعنى الأول، وقال بعض العلماء: هي جملة مؤكدة. والصواب أنها جملة مستقلة، الأولى تُفهم أن الأعمال لا تصح إلا بالنيات، والثانية تبين أن الجزاء يكون بقدر النية، “وإنما لكل امرئ ما نوى”، فبقدر نيتك تجازى.
أما الأعمال المحرمة والمكروهة فلا تغيرها النية.
واستنبط العلماء من هذه الجملة أصلين عظيمين:
▪أصل عظيم قد دل عليه الكتاب والسنة بنصوص كثيرة، ويُستنبط من هذه القاعدة أيضاً: وهو أصل الإخلاص لله سبحانه وتعالى (وإنما لكل امرئ ما نوى)، فمن نوى بالعبادة وجه الله -سبحانه وتعالى- والدار الآخرة أُجر على ذلك، ومن لم ينوِ الله -عز وجل- ولم يقصد وجه الله ولا الدار الآخرة لم يؤجر على ذلك، (وإنما لكل امرئ ما نوى)، الرجلان والمرأتان يعملان العمل الواحد، أحدهما يجازى عليه، والآخر لا يجازى عليه؛ لأن أحدهما قصد به وجه الله، والآخر لم يقصد به وجه الله، فلا قبول للإعمال إلا بالإخلاص، ولا جزاء للأعمال إلا بالإخلاص، لن يقبل الله -عز وجل- عملك -عبدالله- إلا إذا أخلصت لوجهه، لن يجازيك الله -عز وجل- عن عملك إلا إذا أخلصت لوجهه سبحانه وتعالى، قال -سبحانه وتعالى-: ﴿وَما أُمِروا إِلّا لِيَعبُدُوا اللَّهَ مُخلِصينَ لَهُ الدّينَ حُنَفاءَ وَيُقيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دينُ القَيِّمَةِ﴾ [البينة: ٥]. وقال -سبحانه وتعالى-: ﴿لَن يَنالَ اللَّهَ لُحومُها وَلا دِماؤُها وَلكِن يَنالُهُ التَّقوى مِنكُم …﴾ [الحج: ٣٧]. فتقوى الله وإخلاص النيات هو الذي يصل إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا عمل العبد العمل لغير وجه الله- عمله رياء، أو سمعة، أشرك غير الله مع الله، أو أشرك نفسه مع الله عجباً بالنفس- لم يقبل الله -عز وجل- منه عمله. ﴿… فَمَن كانَ يَرجو لِقاءَ رَبِّهِ فَليَعمَل عَمَلًا صالِحًا وَلا يُشرِك بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: ١١٠]. وفي الحديث القدسي قال الله -عز وجل-: ” أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ “.
(وإنما لكل امرئ ما نوى) فمن نوى وجه الله، من نوى الآخرة أُجر على عمله، أما الذي ينوي أن يراه الناس، أو أن يسمع به الناس، فلا عمل له، ولا أجر له، ولا ثواب، إذا أنفق النفقة، وبذل الأموال لا يريد بها وجه الله؛ وإنما ليقال عنه إنه جواد، ليس له أجر عند الله، ولا ثواب لمن جاهد في ظاهر الأمر في سبيل الله، لكنه لا يريد إلا أن يقال عنه إنه شجاع، من تعلم العلم ليقال إنه عالم، وليس لأجل الله -عز وجل- ومرضاته لم يؤجر.
وفي الحديث إن أول من يقضى عليهم يوم القيامة، وأول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: مجاهد، وعالم، وجواد، يقول النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-: ” إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ : كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ : جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ : كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ : عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ : هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ : كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ : هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ “.
(إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) لك -يا عبد الله- ما نويت.
▪والأصل الثاني الذي يؤخذ من هذه الجملة: أنه يجب تعيين الأعمال في العبادات بعد نيتها، سنصلي بعد قليل الجمعة فلا يكفي أن ننوي الصلاة، إذا نويت الصلاة فقد نويت وجئت بالنية، ولكن لا يكفي حتى تنوي الجمعة، وإذا جاءت العصر لا يكفي أن تنوي الصلاة، بل لابد أن تنوي الصلاة وأن تعينها أن تنويها عصرا، وإنما لكل امرئ ما نوى، وإذا صمت في عرفة فنويت الصوم ولم تنوِ أنه عرفة، كتب الله لك صوم نفل، ولم تحصل صوم عرفة؛ لأنك لم تنوِ ولم تعين، وإذا أخرجت مالاً وأنفقته ونويت به أنه لله، ولم تنوِ به الزكاة كان صدقة من الصدقات، ولم يصح عن الزكاة؛ لأنك لم تعين، فلابد من تعيين النية، وتحديد النية ما بين الفروض والنوافل ومراتب العبادات.
واعلموا -عباد الله- أن النية أمرها عظيم، وشأنها كبير، وأنه ينبغي للإنسان أن يستحضر النيات، وما فاز الفائزون، وارتفع المرتفعون إلا بالنيات، كم من أعمال تذهب فيها الأجور عن الناس بسبب النية! نحن الآن ماكثون في المسجد، والمكث في المسجد من نوى به الاعتكاف فتحصل له عبادة الاعتكاف، تجلس في المسجد الفترات الطويلة، فمن نوى الاعتكاف حصل له الاعتكاف وفضل الاعتكاف، ومن لم ينوِ الاعتكاف ولم يخطر له على باله لم تحصل له النية، فيفترق الناس بالنيات، ولهذا روي عن الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: «نِيَّةُ المُؤْمِنِ أَبْلَغُ مِنْ عَمَلِهِ»
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلني وإياكم من أهل الإخلاص، ومن أهل النيات الصادقة!
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، أيها المسلمون عباد الله، اتقوا الله حق تقواه. عباد الله، ويصور لنا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ويمثل لنا في آخر الحديث مثالاً لتقريب المعاني، والرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- كان معلماً حكيماً، وكان يستخدم الوسائل التعليمية لتقريب المعاني، فمن ذلك التمثيل: ذكر الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- في أول الحديث الأصل والقاعدة، ثم ذكر المثال فقال- صلى الله عليه وآله وسلم-: “فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ “. هذا مثال على النية، وتعيين النية، وقصد وجه الله -عز وجل- بالنية، مثال ذلك الهجرة، وليست الهجرة وحدها داخلة في هذا الحديث، بل يدخل تحته سبعون بابا، ولكن هذا مثال، خذوا مثالاً على ذلك الهجرة، ما الهجرة؟ الهجرة في الشرع في المعنى الغالب: الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام، هذه هي الهجرة، الصورة أن ينتقل الإنسان ببدنه من بلده التي يعيش فيها -وهي بلد الكفر- إلى البلد الإسلامية، إلى البلد التي يحكم فيها بالإسلام، وبعد ما أمر الله -عز وجل- بالهجرة من مكة إلى المدينة، وأمر الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- أصحابه، انطلق الصحابة من مكة إلى المدينة، وكان جلهم على نية صالحة، طاعة لله ورسوله، وفراراً بالدين، وهذه هي الهجرة في صورتها وفي قصدها ونيتها ومعناها، ولكن ثمة من انطلق من مكة إلى المدينة من المسلمين ليس بقصد الائتمار بهذا الأمر، والعمل بهذه الأوامر، وإنما لمقاصد أخرى.
رجل هاجر من أجل أن يتزوج بامرأة، اشتهر عند الصحابة، كان عاشقاً لامرأة بالمدينة، ولما جاءت الهجرة وجدها فرصة وانطلق مع المهاجرين، وذهب إلى المدينة وفي نيته الزواج، في نيته المرأة، ومنهم من ذهب بنية التجارة، فهؤلاء في الصورة مهاجرون، ولكنهم في الحقيقة ليسوا مهاجرين إلى الله ورسوله، لم يقصدوا وجه الله، ولا طاعة الله، ولا طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فبحسب النيات تختلف الأعمال، الصورة واضحة واحدة، انتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام، لكن جماعة وهم الأكثر نووا وجه الله، هؤلاء الذين لهم الأجر، ومن نوى غير ذلك لا أجر له.
وقيسوا على ذلك عباد الله، فهذا حديث عظيم أيها الأحبة، النية من أعظم العبادات، ومن أعظم ما ينبغي للمسلم أن يصححه، وأن يحرص عليه، وأن ينتبه له؛ لأن القلوب تختلف بقدر النيات والمقاصد، وكم من إنسان ارتقى، وأرتفع، وعلا، وأرتفعت رتبته عند الله -عز وجل- بهذه النيات العظيمة! ربما تساوى الناس في العمل، ولكنهم لم يتساووا في النيات.
(فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) من كانت وحصلت ووجدت هجرته إلى الله ورسوله في قصده ونيته. (فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) في ثوابه وأجره. (وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا) لتجارة ومال. (أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) لا أجر له ولا ثواب، من خرج مع الجنازة من أجل المجاملة في الدنيا، وليس في قصده الأجر في اتباع الجنازة والحضور عند الجنازة، ليس له أجر، ومن خرج بذلك القصد فله الأجر، من طاف حول الكعبة، ودار بنية الطواف والعبادة، كتب له الأجر، ومن طاف حول الكعبة بنية متابعة أصحاب لا أجر له، إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، من ذهب إلى أرحامه على سبيل العادة، ودخل بيتهم وليس في نيته أن يصل الرحم، وأن يطبق النصوص في الكتاب والسنة، فلا أجر له، ومن ذهب بنية أن يصل الرحم، وأن يطيع الله ورسوله، وأن يتقرب إلى الله -عز وجل- بذلك فله الأجر.
فاسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا وإياكم من أهل الإخلاص، ومن أهل النية الصادقة، وأن يجعلنا وإياكم من أهل الاستقامة، وأن يجنبنا الرياء، والسمعة، والعجب!
اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافنا واعفُ عنا، وتب علينا واسترنا! اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات! اللهم اغفر لنا وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم رخص أسعارنا، غزر أمطارنا، ولِّ علينا خيارنا، اصرف عنا أشرارنا! اللهم جنبنا الفتن، ما ظهر منها و ما بطن اللهم! اللهم جنبنا الفتن، ما ظهر منها و ما بطن اللهم! اللهم جنبنا الفتن، ما ظهر منها و ما بطن اللهم!
اللهم ارحمنا -يا رب العالمين- برحمتك! اللهم ارحم أهل الإسلام برحمتك يا أرحم الراحمين في كل مكان! اللهم اغفر لنا، ولآبائنا وأمهاتنا، وأزواجنا وذرياتنا، ومشايخنا ومعلمينا، ومن له حق علينا يا أرحم الراحمين!
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار! اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم! وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين