خطبة الغفلة – مفرغة –

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أما بعد
فإن أصدق الكلام كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[سورة آل عمران :102].

أيها المسلمون
إن للقلب أدواء كما أن للجسد أدواء، وإن القلب ليمرض كما يمرض الجسد، وإن من أخطر أدواء وأمراض القلب داء الغفلة، هذا الداء الذي يحجب عن القلب الرؤية، ويعمي بصيرته، ويفقده الشعور بما يجب عليه أن يشعر به، يبدأ هذا المرض سهوا يسيرا ثم يستحكم حتى يصير نسيانا مستديما، ومع الغفلة ينسى العبد ربه، ينسى ذكر ربه، ينسى الغاية من خلقه، ينسى المصير الذي ينتظره، ينسى أنه في هذه الدنيا في دار بلاء لمدة قصيرة ثم ينتقل إلى الأخرى فيحاسب على ما قدم من خير أو شر، قال الله عز وجل :(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)[سورة الملك: 1 – 2].
(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[سورة الذاريات: 56].
لكن التغافل سادر في غيه، منشغل بلهوه ولعبه، يستمع للذكر بأذنه، ولكنه لا يفقهه بقلبه، ومنشغل بجوارحه لا يرى لا يسمع، لا يفقه، قال الله عز وجل : (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ۗ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ۖ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ)[سورة اﻷنبياء: 1 – 3]
تسمع آذانهم الذكر ولكن في حال لعبهم ولهو قلوبهم فلا يفقهون، قد عطلت الغفلة الشعور بأدواتهم، والفقه بقلوبهم،
(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)[سورة اﻷعراف: 179].
هذه هي حال الغافلين لهم قلوب ولكنهم  لَا يَفْقَهُونَ بِهَذه القلوب، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ ولكنهم لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ ولكنهم لَا يَسْمَعُونَ بِهَا
والنفي في الآية ليس لحقيقة الفهم والإبصار والسماع ولكن النفي للآثار الناتجة عن تلك المدارك، لا يسمعون سمعا ينفعهم، ولا يبصرون بصرا ينفعهم، ولا يعقلون عقلا وفهما ينفعهم. هؤلاء هم الغافلون ذرأهم الله عز وجل وخلقهم لجهنم.
فمن منا أيها الأحبة يرضى أن يكون من أهل الغفلة؟ من منا يرضى أن يكون من أهل هذا الوصف؟ وأن تكون نهايته جهنم وبئس المصير؟
ولما كانت الغفلة بهذه الخطورة، ولما كان هذا الداء بهذه الخطورة حذر الله عز وجل عباده المؤمنين منه فقال سبحانه وتعالى :
ياأيها المؤمن لا تكن من أهل الغفلة، لا تكن من الذين نسوا الله نسوا ذكره نسوا شكره، نسوا ما أوجب الله عز وجل عليهم فما كانت العاقبة؟ وما كانت عقوبة الله تعالى عليهم؟ كانت العقوبة: فأنساهم أنفسهم جعلهم ينسون مصالحهم الأخروية، فتراه لا يعمل إلا فيما يشقيه ويرديه، والجزاء من جنس العمل.
أيها المسلمون عباد الله
إن داء الغفلة له أسباب تؤدي إليه، وبذور تنبت شجرته الخبيثة، ومواد تغذي غدته النجسة، وإن من أعظم أسباب الغفلة الجهل بالله جل جلاله، والجهل بوحدانيته وتفرده، والجهل بكماله وجلاله، والجهل بأسمائه وصفاته وأفعاله، فمن عظم ربنا جل جلاله في نفسه وعظمت معرفته في قلبه ذكره وأحبه، وخشيه وراقبه، ومن جهل بالله عز وجل وبعظمته وجلاله.. نسيه وتعدى حدوده، قال الله عز وجل مخبرا عن خلقه لاسيما أهل الغفلة :(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ)[سورة الزمر: 67]. وما قدروا الله حق قدره: ما عرفوا الله حق معرفته، وما عظموا الله حق تعطيمه.
وقال سبحانه وتعالى مخبرا عن الذين يشكون في علمه وبصره واطلاعه ورؤيته، وحضور شهوده، ويتجرأون على معصيته:
(وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَٰكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[سورة فصلت: 22 – 23].
فإذا أردنا أن نشفى من داء الغفلة فلنعرف الله عز وجل حق المعرفة، نعرفه من خلال آياته القرآنية وآياته الكونية، وسطوته وعذابه بأعدائه سبحانه وتعالى.
وإن من أسباب الغفلة الاغترار بالدنيا، والاغماس في الشهوات، والانشغال بالملهيات، قال الله عز وجل :(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ)[سورة التكاثر: 1 – 5]. وجواب الشرط محذوف تقديره: لما ألهاكم التكاثر.
وفي الحديث أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: “من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل”
من بدا جفا: من عاش في البادية صار من أهل الجفاء والقسوة. ومن اتبع الصيد غفل: من ذهب يطارد الصيد وانشغل به غفل، فإذا كانت متابعة الصيد غفلة فكيف بالملهيات المعاصرة؟ كالملاعب والكرة التلفاز والإنتر نت ومواقع التواصل الاجتماعي وغير ذلك من الملهيات المعاصرة ؟ ألهت شبابنا وألهتنا عن ذكر الله عز وجل وعن كثير من فعل الخير، لقد حظيت الملاعب والمقاهي والشاشات بأغلى الأوقات وأحلى الساعات، تمر الساعات تلو الساعات أمام الأجهزة والشاشات لا يشعر بها الإنسان، ويجلس في بيت الله عز وجل ربع ساعة أو نصف ساعة فيستعظمها ويستكثرها وتطول عليه وتثقل على نفسه وقلبه، ويكون في بيت الله عز وجل كالمسجون، حتى إذا ما خرج من بيت الله عز وجل سمر عينية في شاشة هاتفه، وأحضر قلبه وفؤاده، وأشغل يده وعقله ويمكث على تلك الحال ساعة وساعتين وثلاث فيثقلها الشيطان عليه، ولا يمل ولا يكل، هذا إذا سلم من مشاهدة الحرام وقول الباطل وكتابة الكذب والزور. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وإن من أسباب الغفلة مخالطة ومصاحبة أهل الغفلة، فالغافل لا يثمر لقرينه إلا الغفلة بعد اليقظة، والضلالة بعد الذكر، قال الله عز وجل :
(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ۗ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا)
[سورة الفرقان 27 – 29].
وإن من أسباب الغفلة ران الذنوب والطبع والختم على القلب الذي ينشأ عن المعاصي والفتن، قال الله عز وجل : (كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[سورة المطففين: 14].
غشى على قلوبهم ما كانوا يكسبونه من الذنوب والخطايا.
وفي الحديث عن حذيفة رضي الله عنه سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ” تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدَ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا ، لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ “.رواه مسلم. فالقلب الأسود قلب خيمت عليه الغفلة وألقت أطنابها، نسأل الله سبحانه وتعالى العافية في الدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد
أيها المسلمون
اتقوا الله حق تقواه
عباد الله
ذاك الداء، داء الغفلة، وأما الدواء فهو بدوام ذكر الله عز وجل كما أوصى الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فقال سبحانه وتعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ)[سورة اﻷعراف: 205].
ومن أسباب زوال الغفلة مصاحبة الصالحين أهل الذكر، وترك مصاحبة أهل الغفلة قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)[سورة الكهف: 28].
ومن أسباب زوال الغفلة دوام التذكير والعظة، فإن من طال عليه الأمد عن التذكير قسى قلبه، قال الله عز وجل: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [سورة الحديد: 16].
وإن من فضل الله عز وجل على هذه الأمة أن شرع لهم خطبة الجمعة من أجل العبرة والعظة والذكر
فاتقوا الله عباد الله وسارعوا إلى إزالة الغفلة وأسبابها قبل حدوث الران وفوات الأوان، قبل فوات أوان الذكرى واليقطة، (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[سورة المؤمنون: 99 – 100]. وقال سبحانه وتعالى :(كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ۚ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)[سورة الفجر:21 – 24]. حياتك الحقيقية أيها المؤمن هي الآخرة وليست الدنيا، فأدم الذكر لله عز وجل واليوم الآخر، واحذر الغفلة والتفريط.
وصلوا وسلموا على من أمركم الله عز بالصلاة والسلام عليه فقال سبحانه :(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[سورة اﻷحزاب: 56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات…

زر الذهاب إلى الأعلى