خطبة أحاديث عاشوراء – مفرغة –

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أما بعد
عباد الله اتقوا الله حق تقواه، قال الله عز وجل :

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[سورة آل عمران: 102].
أيها المسلمون
إن يوم عاشوراء وهو اليوم العاشر من شهر الله المحرم يوم عظيم من أيام الله عز وجل يوم كانت تعظمه قريش في الجاهلية، وذلك مما بقي معها من الحنيفية ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، يوم يعظم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ويعظمه أهل الإسلام.
وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تعظيم يوم عاشوراء وبيان أهميته وفضل الصوم فيه.
فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ : كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تَرَكَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ. رواه البخاري.
تقول عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا “كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ”. قريش القبيلة المشركة بالله عز وجل ، قريش القبيلة المكذبة بنبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قريش المحاربة للإسلام والمسلمين لم تكن ملحدة لم تكن جاحدة بربها عز وجل؛ بل كانت تقر بوجود الله سبحانه وتعالى ؛ قال الله عز وجل : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۖ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ)[سورة الزخرف: 87].
وليس هذا فحسب بل كان القرشيون في جاهليتهم يعظمون الله تعالى ويتقربون إليه بأنواع القربات ويتضرعون إليه بمختلف الدعوات. حكى الله عز وجل عنهم قولهم في عناد : ( اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)[سورة اﻷنفال: 32].
ولما كان يوم بدر خرج في أول النهار أبو جهل بن هشام يستفتح ويدعو الله عز وجل فيقول: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بنا لا نعرف فأحنه الغداة فأنزل الله تعالى : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ )[سورة اﻷنفال: 19]. أي عليكم لا لكم.
وكانوا يتصدقون ويزكون ولكنهم كانوا يشركون أصنامهم في حرثهم وأنعامهم، قال الله عز وجل : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَٰذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَٰذَا لِشُرَكَائِنَا ۖ فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ ۗ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)[سورة اﻷنعام: 136].
وكانوا يصومون كما جاء في هذا الحديث الذي نحن بصدده.
وكانوا يحجون بيت الله الحرام ويعظمونه، ولكنهم كانوا يجعلون لله الشريك في تلبيتهم فيقولون: لبسك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك.
ومع ذلك كله مع إقرارهم بالله عز وجل ومع تعبدهم لله عز وجل لم يقبل منهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل صارمهم وعاداهم وقاتلهم، وأمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)[سورة الكافرون: 1 – 6].
ومع مصارمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقريش وبراءته منها ومن دينها لم يمنعه ذلك من التعايش معهم حين كان مضطرا لذلك، ولم يمنعه ذلك من أن يشابههم فيما هو خير وحق ولو في العبادة كما في صوم عاشوراء، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصوم عاشوراء في مكة المكرمة كما كان يصومه القرشيون؛ لأن الصوم لله تعالى حق وإن فعله المشركون.
وهذه السيرة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع المشركين هي التي يجب أن ننتهجها، وتتلخص في أمرين :
الأول: البراءة من الشرك وأهله وعدم التساهل في ذلك.
والثاني : أخذ ما عند المشركين من حق وخير مما لا يرده ديننا ولا تنكره أصولنا.

عباد الله
هذا كان حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة كان يصوم يوم عاشوراء منذ كان بمكة فلما قدم المدينة صامه في المحرم من السنة الثانية وأمر الناس بصيامه وحثهم عليه، وهذا هو الحال الأول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مع صيام عاشوراء، فلما فرض صيام رمضان في السنة الثانية من الهجرة ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم حث الناس على صيام عاشوراء، وترك الأمر لاختيارهم فكان من شاء صام ومن شاء أفطر. وهذا هو الحال الثاني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مع عاشوراء.
وبقي له حال ثالثة سنبينها في الخطبة الثانية بإذن الله تعالى.

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد
عباد الله اتقوا الله حق تقواه
أيها المسلمون
ثم إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اتضح له أن اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم عن سر صومهم لهذا اليوم وكانت الحال الثالثة مع عاشوراء. فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ : قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ : ” مَا هَذَا ؟ ” قَالُوا : هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ ؛ هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى. قَالَ : ” فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ “. فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ.
رواه البخاري. وصيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم هنا ليوم عاشوراء وأمر المسلمين بصيامه وحثهم عليه ليس بالقياس المجرد ولكنه بالوحي من الرب جل في علاه فإن النبي صلى الله عليه وآله كما وصفه ربنا جل جلاله بقوله: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ)[سورة النجم: 1 – 4]. وإنما جعل الله عز وجل اطلاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حال اليهود سببا لهذا الوحي، وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الاقتداء بموسى عليه الصلاة والسلام تعليلا لهذا الوحي لا أصلا له، فالله عز وجل أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يصوم يوم عاشوراء اقتداء بموسى عليه الصلاة والسلام وشكرا لله عز وجل على نجاته، وفي ذلك أوضح الدلالة على أن أساس الأخوة والمحبة والموالاة في الإسلام هو الإيمان والتقوى وإن اختلفت العصور والأجناس والأمم والبلدان والثقافات.
ويتوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حثه على صوم يوم عاشوراء بما جاء عن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ ” رواه مسلم.
صوم يوم واحد يكفر آثام سنة كاملة فياحظ من صام هذا اليوم، ويا حسرة من فاتته هذه الفضيلة.
ثم إن الصحابة رضي الله عنهم لما علموا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم حرصه على مفارقة أهل الكفر ومنهم أهل الكتاب وحرصه على التميز عنهم وعدم التشبه بهم ذكروه بأن اليهود تعظم عاشوراء، وكأنهم يقولون: لماذا لا نتميز عنهم؟ فكيف كان جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟
جاء في الحديث عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قال : حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ – إِنْ شَاءَ اللَّهُ – صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ “. قَالَ : فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي رواية  عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ ؛ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ ” رواه مسلم . واستنبط العلماء من هذا الحديث أنه يستحب صوم يوم تاسوعاء قبل يوم عاشوراء زيادة في التميز عن أهل الكتاب، أو صوم يوم بعد عاشوراء، ومن شاء صام عاشوراء ويوما قبله ويوما بعده، ومن شاء صام عاشوراء وحده ولا حرج عليه.
وصلوا وسلموا….

زر الذهاب إلى الأعلى