خطبة الدعاء عند الشدائد وخشية الفتن – مفرغة –
الحمد لله الذي هيأ لعباده المتضرعين به من أمرهم رشدا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، لا أحصي عليه ثناء أبدا.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعلى آله وصحبه وَسَلَّمَ تسليما مزيدا سرمدا.
أما بعد
أيها المسلمون عباد الله
اتقوا الله حق تقواه
قال الله عز وجل :(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون).
عباد الله
إن من سنن الأنبياء والمرسلين، والأولياء والصالحين التضرع إلى الله عز وجل والدعاء في الشدائد والمحن، وعند مضايق الأمور وخشية الفتن، يدعون الله تعالى أن يلهمهم رشدهم، وأن يبين طريقهم، وأن يكشف كربهم، وأن يصلح أمرهم.
فهذا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لما ترك زوجته هاجر وابنه إسماعيل عليهما السلام في واد غير ذي زرع وهو وادي مكة حيث لا ماء ولا زرع ولا إنسان دعا للبلد الحرام بالأمان والرخا ودعا لنفسه وولده بالثبات على التوحيد وإقام الصلاة، قال الله عز وجل: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ۖ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)[سورة إبراهيم: 35 – 37].
فاستجاب الله عز وجل دعاءه وجعل الكعبة المشرفة حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء، ولم يزل في ذريته من يوحد الله عز وجل ويقيم الصلاة.
ولما خرج موسى عليه الصلاة والسلام من مصر خائفا يترقب دعا الله عز وجل فقال: ( رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[سورة القصص: 21].
(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ)[سورة القصص: 22].
فهداه الله عز وجل إلى سواء السبيل وأوصله إلى مدين سالما معافى، وهيأ له أمره في مدين ونجاه من شر فرعون وملأئه.
وفي عهد الملك طالوت رحمه الله وقف المؤمنون في فئة قليلة أمام جيش جالوت الكبير المخيف فتضرعوا إلى الله عز وجل بالتثبيت والنصر فكان لهم ما طلبوه، قال الله تعالى : (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)[سورة البقرة: 250 – 251].
وكان يونس عليه الصلاة والسلام في بطن الحوت في وسط الظلمات ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة الحوت فنادى في الظلمات متوسلا بالتوحيد والتنزيه معترفا بالذنب سائلا بقلبه النجاة مما هو فيه فاستجاب الله عز وجل له فنجاه من الكرب ونفس عليه، قال الله عز وجل :
(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)
[سورة اﻷنبياء: 87 – 88].
فكل من دعا الله عز وجل من المؤمنين واثقا به مقبلا عليه بقلبه استجاب له.
ولَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ : ” اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ “. فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ ؛ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ }، فَأَمَدَّهُ اللَّهُ عز وجل بِالْمَلَائِكَةِ.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، والصلاة والسلام على بدر التمام، سيدنا محمد صفوة الأنام، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم واقتفى بهديهم واستقام
أما بعد
أيها المسلمون
اتقوا الله حق تقواه.
عباد الله
ومن قصص الصالحين التي ظهرت فيها سنة التضرع والدعاء عند خشية الفتنة قصة أصحاب الكهف، وأصحاب الكهف فتية آمنوا بربهم وزادهم هدى، قال الله عز وجل عنهم: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَٰهًا ۖ لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا)[سورة الكهف: 13 – 14].
أعلنوا إيمانهم فعزم الملك على أن يعذبهم حتى يردهم عن دينهم، ففروا بدينهم من الفتنة وتوجهوا نحو الجبل والكهف، وفي طريقهم توجهوا إلى الله عز وجل وتضرعوا إليه وسألوه الرحمة والرشد، قال الله عز وجل : (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)[سورة الكهف: 10].
أنزل علينا الرحمة، أسبغ علينا رحمة من عندك وهيئ لنا من أمرنا رشدا، فاستجاب لهم ربنا جل جلاله القريب المجيب فأنزل الله تعالى عليهم رحمته، فرحمهم الله عز وجل فحفظ دينهم، وحفظ أجسادهم، وهيأ لهم من أمرهم رشدا، فأكرمهم بتلك الكرامة العظيمة، وخلد ذكرهم إلى يوم الدين.
وهكذا أصحاب الغار من بني إسرائيل، قوم آواهم المبيت إلى غار، اضطرتهم المطر أن يأووا إلى غار، وبعدما دخلوا في الغار انطبقت على فم الغار صخرة عظيمة فحبستهم بداخله، بإذن الله تعالى، فعرفوا أنه البلاء، وعلموا أنه لا ينجيهم منه إلا أن يدعوا الله عز وجل بصالح أعمالهم، انقطعت الحيل والأسباب ، وسدت عليهم الأبواب إلا باب الله جل في علاه، فتوجهوا إلى الله سبحانه وتعالى، فتضرعوا وتوسلوا إلى الله عز وجل بصالح أعمالهم فاستجاب الله دعوتهم، فانفرجت الصخرة عن فم الغار فخرجوا يمشون، أنجاهم الله عز وجل من كربتهم.
فلنتق الله عباد الله ولضرع إليه بالدعاء في كا أحوالنا، ونسأله جل جلاله أن يصلح أحوالنا ويجمع كلمتنا ويهيئ لنا من أمرنا رشدا، وأن يرشدنا إلى سبل الهدى.
اللهم هيئ لهذه الأمة أمرا رشدا يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.
اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم احفظ أمننا وطمأنينتنا يارب العالمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
وصلوا وسلموا على من أمركم الله عز وجل بالصلاة والسلام عليه فقال :(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[سورة اﻷحزاب: 56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
عباد الله
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[سورة النحل: 90].
فاذكروا الله يذكركم واشكره يزدكم، ولذكر الله أكبر. والله يعلم ما تصنعون.