خطبة لعلهم يتضرعون – مفرغة –

خطبة لعلهم يتضرعون

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره …
أيها المسلمون
لقد نزلت بهذا البلد بلية ومحنة, نزل بنا عباد الله بلاء ومحنة, ولا يزال البلاء يزداد يوما بعد يوم, ولا تزال هذه المحنة تزداد يوما بعد يوم, ويتجادل الناس فيما بينهم حول المحنة عن الأسباب والحلول ويكثر الكلام حول الحل والمخرج, لكن الكثير ممن يتكلم عن هذا الأمر لا ينتهج نهج القرآن, لا يرجع إلى القرآن, إلى كتاب الله عز وجل, الذي هو الفصل ليس بالهزل, فيه نبأ ما قبلنا وخبر ما بعدنا وفصل ما بيننا, (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) يهدي للتي هي أقوم في كل شيء, ومن ذلك في توصيف المحن والمشكلات , وفي بيان أسبابها وعلاجها, على وجه عام
قال الله سبحانه وتعالى عن البلايا والمحن والمخرج منها (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون)
(ظهر الفساد في البر والبحر) هذه هي المشلة وهذه هي المحنة, وهذا هو البلاء.
(ظهر الفساد في البر والبحر) ولا يزال الفساد يظهر مكررا في كل زمان ومكان.
وما المراد بالفساد هنا في هذه الآية؟ المراد بالفساد ما يقع من فساد في الدنيا من المصائب والمحن والبأساء والضراء, والأمراض والأوبئة واللأواء وقطع الطرق وارتفاع الأسعار وغير ذلك من الفساد, (ظهر الفساد في البر والبحر) ليس المراد بالفساد هنا ذنوب الناس ومعاصيهم, فالذنوب والمعاصي مذكورة في قوله بعد ذلك ( بما كسبت أيدي الناس) هذه هي المحنة (ظهر الفساد في البر والبحر) وانتشر الفساد في البر والبحر كما نرى هذه الأيام,غلاء في المعيشة وارتفاع في الأسعار, وندرة في الأقوات, وشحة في المحروقات, حتى تضيقت على الناس حياتهم, وحتى وجد فينا من لا يجد قوته الأساسي.
هذا هو البلاء وهذه هي المحنة, فما سبب ذلك يارب؟ قال: ( بما كسبت أيدي الناس) هذا الفساد وهذه المصائب وهذه المحن والبأساء والضراء قدرها الله عز وجل على الناس بما كسبت أيديهم ( بما كسبت أيدي الناس) من خطايا وذنوب وتقصير في حق الله عز وجل, وهذه حقيقة يؤكدها القرآن في آيات كثيرة, قال الله عز وجل: ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم) وقال الله عز وجل: ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) ( وما أصابكم من مصيبة): كل مصيبة يكتبها الله عز وجل على الناس, كل مصيبة صغيرة أو كبيرة لا ينزلها الله عز وجل إلا بذنب بنص القرآن( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) بما جرحت أيديكم, بما اكتسبتم من أعمال وأقوال واعتقادات, ( ويعفو عن كثير) يعفو الله عز وجل عن كثير من الذنوب والمعاصي, ولو أخذنا _جل جلاله _ بكل جريرة نعملها لأهلكنا, ولما ترك على ظهرها من دابة.
هذا هو السبب في المصائب والمحن ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير).
وأما المخرج من المصائب والمحن فذكره الله عز وجل في قوله: ( لعلهم يرجعون) قال سبحانه: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) (ليذيقهم بعض الذي عملوا): ليذيقهم عاقبة بعض ذنوبهم, وما الغاية من ذلك؟ وما الحكمة من وراء ذلك؟ وما النهاية؟ قال: ( لعلهم يرجعون) فهو سبحانه وتعالى الرحمن الرحيم حتى في عقوبته لعباده ، هو رحيم بهم يريدهم أن يرجعوا إليه, يعجل لهم بعض العقوبة في الدنيا حتى يرجعوا إليه ويسلموا من عقوبة الآخرة, (لعلهم يرجعون):
(لعلهم يرجعون) إلى الله عز وجل بالتوبة والاستغفار , قال الله عز وجل: ( وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون). فرتب الفلاح على التوبة، الفلاح في الدنيا والآخرة, وقال تعالى : ( فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا)
(لعلهم يرجعون) إلى الله عز وجل بالإيمان والتقوى , قال الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [الأعراف: 96].
وقال الله عز وجل عن أهل الكتاب : {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } [المائدة: 66].

(لعلهم يرجعون) إلى الله عز وجل بالتضرع والدعاء, { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 42، 43]. (فأخذناهم بالبأساء) أخذناهم بسبب ذنوبهم بالحرب والشدة والضيق و(الضراء) الأمراض والضر واللأواء والفقر, لماذا يارب؟ قال: (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) رحمة منه سبحانه وتعالى, يريد الله عز وجل من عباده أن يتضرعوا إليه, وأن يجأروا إليه, وأن يدعوه وأن يلتفتوا إليه, وأن يتعبدوا له, وأن ينكسروا بين يديه, فما الذي حدث؟ قال الله سبحانه وتعالى: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا)(فلولا) هنا حرف تحضيض, لو أنهم حين جاءهم عذابنا تضرعوا وطلبوا منا رفع العذاب, و(ولكن) لم يتضرعوا, (وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
(لعلهم يرجعون) إلى الله عز وجل بالأخذ بالأسباب المادية التي تخرج بالناس من المحن, فإن الله سبحانه وتعالى جعل لكل شيء سببا, وقال عن ذي القرنين: (فأتبع سببا), فيجب على المسلمين أن يأخذوا بالأسباب المادية الإدارية والمالية وغيرها التي تخرجهم من هذه الفتن والمحن, فاتقوا الله عباد الله، ارجعوا إلى الله سبحانه وتعالى, لنعد إلى الله عز وجل, ولنتضرع إلى الله عز وجل فإن الأمور بيده سبحانه وتعالى, لن يعمل لنا أهل السياسة شيئا ولا أهل الحكم شيئا ولا الأحزاب, كل هؤلاء اتجه إليه الناس ولم يعملوا لهم شيئا ؛ لأنهم ليس بيدهم شيء على الحقيقة, ولأنهم لا يسعون إلا في مصالحهم الخاصة ولا يهمهم شأن الناس. ولكن الأمر الحقيقي بيد الله, ورب العزة جل جلاله يبتلينا -عباد الله -من أجل أن نرجع إليه, وهو الذي يقول للشيء كن فيكون.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية :

الحمد لله رب العالمين , والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين, والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد,
قال الله عز وجل:
{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
(بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)
ما الذي كسبناه من الذنوب والمعاصي؟ ربما تساءل شخص مع نفسه: ماذا فعلت؟ وماذا أذنبت؟
الذنوب والمعاصي منتشرة بيننا, منتشرة , والله عز وجل ينظر إلى المجتمع كله, فسواء أذنبت أو لم تذنب، فأنت جزء من هذا المجتمع المذنب, فإذا حقت كلمة الله عز وجل بعذاب مجتمع فإن عقوبته تعم ولا تخص المذنبين وحدهم, قال سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [الأنفال: 25]. (لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً): حين تنزل, لا تنزل على الظالمين وحدهم بل تعم الجميع؛ لأنهم لم يأخذوا على يد الظالم, ولم يأخذوا على يد الفاجر والفاسق, و لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر, وإنما المجتمع كسفينة كما صور ذلك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم, والناس كركاب السفينة, فإذا خرق بعض الركاب في قعر السفينة ، فإما أن يأخذ بقية من في السفينة على أيديهم فينجوا وينجوا جميعا, وإن تركوهم يخرقون السفينة غرقوا وغرقوا جميعا,.
وإن من الذنوب التي كسبتها أيدينا الشرك بالله عز وجل والكفر به والإلحاد الذي انتشر بين أبنائنا في الآونة الأخيرة, وسب الرب عز وجل وشتمه, وموالاة الكافرين ومحاربة أهل الإيمان.
من الذنوب التي كسبتها أيدينا ترك الصلوات وعدم إيتاء الزكوات, والإفطار في نهار رمضان.
من الذنوب التي كسبتها أيدينا عقوق الوالدين, وقطيعة الرحم, وسوء المعاملة مع الجيران وغيرهم من الناس.
من الذنوب التي كسبتها أيدينا شرب الخمور, وتناول المسكرات والمخدرات, والابتلاء بالقات.
من الذنوب التي كسبتها أيدينا الزنا واللواط والاختلاط ومشاهدة المقاطع الإباحية.
من الذنوب التي كسبتها أيدينا استئثار الحكام بالأموال والمناصب والتلاعب بمقدرات الأمة.
من الذنوب التي كسبتها أيدينا جشع التجار, والاحتكار, واستغلال الناس في أحلك الظروف.
من الذنوب التي كسبتها أيدينا النفاق والكذب وخلف الوعد والخيانة واللف والدوران والفجور في الخصومة ،
من الذنوب التي كسبتها أيدينا الغش في المعاملة والخيانة والمكر والخديعة.
من الذنوب التي كسبتها أيدينا الظلم والاستبداد والاستغلال وقهر الرجال وإذلال النساء.
اجتمعت هذه الذنوب على الناس فغضب الله علينا وأنزل سخطه وابتلى عباده بالسراء والضراء لعلهم يرجعون.
ما مثلنا -عباد الله – في هذا المجتمع إلا كمثل الثلاثة الذين آواهم المبيت في غار فتدحرجت صخرة وأغلقت عليهم الغار وتلك هي البلية, فلم يخرجوا من ذلك الغار حتى تضرع كل واحد منهم لله عز وجل, وتوسل إلى الله عز وجل بصالح عمله , فجعلت الصخرة تنفرج شيئا فشيئا حتى أنجاهم الله عز وجل من ذلك البلاء, فخرجوا يمشون, ونحن في محنة عظيمة لن ينجينا الله عز وجل منها حتى نتضرع كلنا إلى الله عز وجل ونتوب إليه جل في علاه, فكل منا سبب بذاته, وكل منا يجب عليه أن يتوب وأن يستغفر.

وصلوا وسلموا …

 

 

لتحميل الخطبة صوتية من هنا

 

زر الذهاب إلى الأعلى