قارون
قارون
لقد قص الله عز وجل على رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم القصص، وأمره بقوله: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176]، ومن بديع قصص القرآن (قصة قارون) وهذه إطلاله قصيرة على تلك القصة بتعليقات موجزة على الآيات التي تتضمن تلك القصة من سورة القصص.
من هو قارون؟ ومن أي أمة كان؟ وماذا صنع؟
قال الله عز وجل: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} [القصص:76]. كان من بني إسرائيل قوم موسى، وكان من أهل الإسلام في أصله، ولكنه بغى واستطال على قومه وطغى وتجبر ونافق، وكان سبب طغيانه وتجبره هو ما آتاه الله عز وجل من المال والجاه والمنزلة الرفيعة.
قال الله عز وجل: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76] إن مفاتيح خزائنه تنوء وتميل بالجماعة أصحاب القوة فكيف بكنوزه وخزائنه؟ وحدث ولا حرج عن خدمه وحشمه وأتباعه وأنصاره.
ولما طغى قارون وبغى على قومه ذهب إليه العلماء والصالحون فنصحوه وذكروه بنعمة الله عليه، ووجهوا له خمس نصائح ذكرها الله بقوله:
{إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76]. نهوه عن فرح البطر.
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:77] استعمل نعم الله عليك في التوصل لنيل الآخرة.
{وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] خذ نصيبك من متع الدنيا بما أحل الله لك.
{وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77] قابل إحسان الله إليك بالإحسان إلى خلقه.
{وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77] لا تطلب ولا تفعل ما فيه إفساد في الأرض سواء بالكفر أو بالمعاصي أو بإهلاك الحرث والنسل أو بكل ما فيه إفساد متعلق بحق الخالق أو بحقوق الخلق.
فما كان جواب ذلك الباغي المتكبر للذين نصحوه من قومه إلا أن قال كما أخبر الله عز وجل:
{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:77] أي: إنما كسبت هذا المال وهذه الكنوز بجهدي وكدي وعلمي بأسباب الكسب ووجوهه. فجحد نعمة الله.
فرد الله عز وجل على تكبره وتغطرسه وجحده لنعمته بقوله: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78] أولم يعلم بهذه السنة الكونية من سنن الله عز وجل؟ بلى، ولكن الله عز وجل يعمي الطغاة عن تذكر هذه السنة، ليحق عليهم عذابه، وإنهم لجديرون بتلك العقوبة، فذنوبهم من كثرتها وعِظَمها وظهورها بحيث لا حاجة لسؤالهم عنها.
وفي يوم من الأيام خرج قارون في موكب عظيم في كامل زينته وأتم أبهته ليستميل النفوس الضعيفة، ويجذب القلوب المريضة، قال الله عز وجل: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص:79].
فاختلف الناس في الموقف منه على قسمين:
القسم الأول: دهماء الناس وعوامهم الذين ينظرون إلى المظاهر فقط، {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79] وأي حظ عظيم حظي به هذا الطاغية مع النفاق والبغي؟ أين ذهب إيمان هؤلاء القوم؟ وأين ذهبت عقولهم؟
والقسم الثاني: هم العلماء وخصوص الناس الذين ينظرون إلى الحقائق والعواقب والمآلات: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80] فالجنة والآخرة والدين مقدمة على الدنيا المحضة.
وفي يوم من الأيام طلعت شمسه وأشرق صباحه كان ذلك الطاغية على موعد مع العذاب والمصير المحتوم {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:81] فرأى الناس عاقبة الطغيان حقيقة محسوسة، ولم يمنع من نزول العاقبة المحتومة على ذلك الطاغية أحد {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81] فما نصرته فئة ولا جماعة، وما منع من نزول العقاب به أنصار ولا أتباع، ولم يكن هو بالمنتصر الذي يقدر على رد ما نزل به، وقد قال الله عز وجل في محكم الكتاب: {وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110].
وبعد أن تكشفت الحقيقة وظهرت عاقبة الفتنة أبصر كل لم يكن قد أبصر في إقبال الفتنة، وتبينت حقائق الشرع حتى للذين قد ركنوا قبلها إلى الدنيا، وإذا بهم يصبحون على حال آخر {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82] (وَيْ) ندم على ما فات.
وفي كلامهم تبصر لثلاث حقائق من الحقائق العظيمة التي أكدتها الكتب السماوية:
1- الحقيقة الأولى: {كَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82] أجل والله، فإنما ذلك بلاء من الله عز وجل لعباده فهو يبسط الرزق لمن يشاء، ويقدر الرزق ويضيقه على من يشاء. وليس في بسط الرزق إكرام ولا في تقديره وتضييقه إهانة.
2- الحقيقة الثانية: {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} فمن خرج من الفتنة دون أن يعمه عذابها فقد منّ الله عليه، وهي منّة من الله عز وجل وحده يتفضل بها على استحقها ولو بأدنى استحقاق، وذلك يوجب على العباد التعرض لأسباب المنّة، والبعد عن أسباب النقمة.
3- الحقيقة الثالثة: {كَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} أجل، والله فمن كفر لا يفلح، بل تكون عاقبته وخيمة، وعقوبته عظيمة، ولا ينجي من سخط الله إلا الإيمان بالله.
وختم الله عز وجل قصة قارون بقوله: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [القصص:83-84] لقد كانت الخاتمة حديثاً عن الخاتمة, وإشارة إلى الدار الآخرة، {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64] لهي الحياة الحقيقية الأبدية.
ولا يجعلها الله إلا لمن اتصف بهاتين الصفتين:
– ترك الاستكبار على الخلق وطلب العلو في الأرض.
– وترك الفساد في الأرض بأي وجه من وجوه الإفساد.
ووعد الله عباده المؤمنين وسلّاهم بقوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ، وحسب المتقين هذه الكلمة تسلية عند تكالب الأعداء وفي زمن الفتن والكروب.
ثم يكون في الآخرة عدل الله المطلق وفضله العميم: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وما أحسنها من خاتمة، ختم الله لنا ولكم بالحسنى.